صوت سعال شديد يجذب المارة، يقابله مسن يكاد يسقط من وقفته، متلمسا جدارًا يتكيء عليه، بينما تراقصت عينا عجوز في مقلتيها متابعة المارة وكأنها تقتل الانتظار، فيما صديقتها تجاهد لـ "تصلب طولها"، محاولة الوقوف من وسط الزحام، وكل حلمها أن تصل لذلك الشباك الذي تحاصره أجساد العجائز وكبار السن من الرجال في رحلة "إهانة كل شهر"، بحثًا عن المعاش.على أرض اسمنتية يتدثر أصحاب المعاشات من الساعة السابعة صباحًا، بأيدهم وملابس شتوية مهلهلة هربًا من لفحات البرد القارس، أملًا في إيجاد الدفء.أمام مكتب بريد مدينة الحوامدية، جنوب محافظة الجيزة، يصطف عشرات من أصحاب المعاشات، أعمارهم تتراوح بين 60 عامًا إلى 80 عامًا، أعمارهم الكبيرة منعت البعض منهم من الوقوف في الطابور الطويل، فاتكأ على سيارة، وآخر اتخذ الرصيف مقعدًا سارحًا في عالمه الخاص.بعيون زحف عليها الظلام ينظر "فؤاد" الذي تجاوز عاماه الثمانين، إلى معاشه الذي يتقاضاه، وهو يفترش الأرض ليردد بصوت مرتفع، "كله على الله، الحمد الله هو مش بينسى الغلابة".الزمان نحت على وجه عم "فؤاد" علامات الشيخوخة، أضف إليها إعالته لـ4 من الأولاد، "أنا عمري كله قضيته في الشغل ما بين عامل نظافة في إحدى الشركات الخاصة وما بين وزارة التموين، 42 عامًا كانت نهايتهم معاش 500 جنيه يادوب يقضوني أنا وزوجتي بعد بفضل الله ما جوزت ولادي"."لولا مساعدة ولادي ليا أنا وأمهم كنا موتنا من الجوع، بس الحمد الله إحنا أحسن من ناس كتير" بصوت واهن اختتم عبارته عم فؤاد.وعلى الجانب الآخر تقف أرملة خمسينية تقلب بين راحتيها معاش زوجها، الذي توفي منذ أكثر من 10 سنوات تاركًا في رقبتها "كوم لحم"، تحسب كل متطلبات بيتها.نادت "رباب" على من أمامها محررة "أهل مصر"، و"النبي يابنتي احسبي لي الحسبة دي"، حاضر يا أمي قولي.." 500 جنيه قسط جهاز بنتي الكبيرة، 250 جنيه لحمة، 280 جنيه فراخ، دروس لابني في 3 إعدادي 300، ودروس لبنتي التانية في 5 ابتدائي 200 جنيه".بعينين يملؤهما الحيرة وصوت مرتعش قالت: "اللي هيفضل من المعاش بعد الحسبة دي 280 جنيه، دول بقى هيكفوا مصاريف المواصلات ولا النور ولا الميه ولا هكمل إزاي مصاريف جهاز وفرحها بعد 3 شهور، في الوقت اللي كل أهل جوزي اتخلوا عني أنا وولادي".أنهت السيدة حديثها وراحت تبحث عن طريقة تعود بها لبيتها وهي تحتسب عند ربها حالها وأولادها وتسأله الحل والتدبير.
كتب : نجوى قطب