هنا بميدان الكيت كات، تأتى القصة كما كانت منذ الثمانينيات، ظلت تخوض بتجاربها السينمائية عبر الشاشات قصص من واقع الحياة المريرة، التى تغوص فى أزقة وحوارى المنطقة، هنا كانت قصة "طائر الليل الحزين"، التى قام ببطولتها محمود عبد العزيز فى رائعة سينمائية، خُلّدت عبر التاريخ الفني والدرامى، ولكن هًنا نحكى، قصة مًختلفة.بمجرد أن تُلقى ببصرك على أول شارع مُراد المُتفرع من ميدان الكيت كات التابع لإمبابة، لا يخيل لك أنه بنهاية هذا الممر أوكارًا مُكتظة بأسرار وحكايات عن" مُخدر الاستروكس القاتل".رحلة خاضتها "أهل مصر" داخل شوارعها وحارتها، ففى أول الناصيتين بـ"شارع مُراد"، تنتشر القهاوى والمحال والعديد من المنازل المُصطفة بخطِ واحد، يلعب الصغار ويتسامر الشباب والرجال على المقاهى وتثرثر النساء من شبابيك منازلهن إلى جارتهن بالمنازل المُقابلة، ليُلقى بداخلك الطمأنينة مُجرد أن تخطو إليه، وكإنك بمُحيط بيتك.كلما تخطو إلى الداخل تشعر بانقباض قلبك، ويخيم الظلام أمام عينيك وإن كُنت بوضح النهار، حارات وأزقة تنتهى بـ"متاهة"، تلتفُ حول بعضها البعض وكأنها صُنعت لتستترُ على تُجار الاستروكس، مًظلمة وكإن لا يدخلها نُور السماء، تقف بقدمِ واحدة ما بين الارتباك فى اقتحام تلك المكان لمعرفة ما يدُور حول جدرانه، والخوفِ من عدم إمكانك استرداد تلك الخُطوة فى الرجوع إلى الوراء.تفًوح رائحة المًخدرات بوجوه المارة بعدة حارات منها شجرة الدُور وقطرة الندى، وأرض عزيز عزت وفضل الله عثمان، والتى يفصلها كيلو واحدًا عن قسم "شرطة إمبابة" برأس كًل شارع يقف مجموعة من الشباب والصبية يتحدثون لبعضهم البعض بـ"النظرات"، يراقبون كُل خُطوة من قدمِ شخص غريب عن المنطقة، يفرضون سطوتهم يرمقون الجميع بحذرِ.يقف بأحد الأزقة التى خيم عليها الليل، صبية لا يتعدون السابعة عشر من العُمر، يلتقط سيجارة "استروكس" بين أناملهم، يضعوها فى فمهم ويأخذون نفسًا عميقًا ربما أطول منهم، يستندون بأجسادهم النحيلة على جدران الحوارى البالية، يُغمضون أعينهم -وكأن رؤية وجوه بعضهم ستعيقهم الاستمتاع- ثُم يفتحون ثغرهم، ليخرج الدُخان مُبعثرًا فى الهواء.وسط تجولنا، شردنا بالنظر إلى شاب لا يتعدى العشرين من عُمره يسقط داخل صندوق "الكارته" -الخاص به- مًغيبًا عن الوعى إثر تناوله جًرعة زائدة من الاستروكس، تظًن بجسده المهترئ، رحيل روحه إلى السماء، وكأن النبض هرب منه، ولكن بالتدقيق لثوانِ تجد أنفاسه البطيئة ترتفع من صدره قليلًا قليلًا.تصادفنا حينها بطفلِ لا يتعدى السابعة من العُمر ملامحة الهزيلة وجسدة الضعيف، والسواد الذى يعانق أسفل عينيه يُخبرنا بإنه سقط فى مصيدة "الاستروكس".فاقتربنا منه ومازحناه بالسؤال.. شكلك بتشرب صح؟ ليرد ردًا أكبر من ملامح عُمره الصغير أيوا بشرب استروكس فى حاجة؟ وأشار إلى "شاب الكارته" ودا كمان بيشرب، لم نستفيق من صدمة الرد، ليتغامز "ديلر" للأخر بـ"نظرة صامتة"، يُخبره بها القفز ورائنا، فأخذ نفسًا عميقًا بسيجارته قبل إلقائها ارضًا ودهسها بحذائه وهرول مًسرعًا إلينا: عاوزين حاجة ؟ فأجبناه: إحنا جايين تبع جمعية خيرية نساعد الناس العايشة فى "البدروم"، فأومأ رأسه يًظهر اقتناعه ولكن عينيه تقول عكس ذلك، فأفسح لنا الطريق وهو يترك نظره لصاحبه الأخر، بألا يفسحنا عن باله".بمُجرد الانتهاء من الحديث الذى لم يتعدَ دقائق، نستدير لنُكمل الحديث مع الطفل، لكنه كما يقولون "فص ملح وداب"، وأيضًا شاب "الكارته".بصوتِ جهور يصدح فى خلاء تلك الحارات، نادتنا إمرأة تبدو فى أواخر عقدها الرابع، تجلس بمقدمة منزلها "يا أنسة..يا استاذ؟".ذهبنا بخطواتِ مُتقطعة، يسقط جسدها القوى داخل عباءة سوداء مُهلهلة، تغطى رأسها بـ"إيشارب" لنفس اللون، يبرز ملامحها الغليظة، وتطلُ منه أذنيها بقراطِ ذهبى مستديرًا، ترمق خطواتنا إليها لتستنهض مقعدها وتقول: قولولى عاوزين إيه، فأجبناها كما أجبنا "الديلر" تبع جمعية خيرية وعاوزين نساعد الناس فى البدرون.فالتقطت خيط الحديث:"لا لا لاجل النبى فى حاجة أهم ينوبكوا ثواب، ساعدوا العيال الي بتشرب المخروب دا –الاستروكس- ساعدوهم بأى شكل.فعرضنا عليها: مُمكن تجيبلينا ناس بتشرب الاستروكس، فقالت مُتحمسة "طبعًا إطلعوا قدامى البيت".داخل منزلها الصغير، وجدنا بمحض الصدفة سيدة فى عقدها العشرين، تتاجر "بالبيض"، فاقتربت السيدة صاحبة المنزل وهمست بأذننا "دى بتشرب الاستروكس وهخليها تكلمكم".أخذتها السيدة من يدها وظلت تهمس فى أذنها لعدة دقائق تشرح لها الحديث وتطمئنها نحونا وبالفعل سردت لنا قصة بدئها بتناول الاستروكس."جوزى الي شربنى الاستروكس" هكذا بدأت حديثها تلك الشابة التى رفضت ذكر اسمها عن وقوعها فى مصيدة "الاستروكس".وأردفت: "أنا فى الأول كُنت باخد حشيش صحابى ال عرفونى عليه لما كُنت بمنشية ناصر، بعد كدا اتجوزت وجوزى كان بيجيب خمرا وتامول وصراصير وماتريل، ومكنتش أعرف دول إيه وقالى دول بس هينشطوكى فى البيت".وتابعت:"جوزى الي عرفنى على الاستروكس، ومبقتش بقدر أعيش من غيره، بشرب عشر سجاير باليوم، بجيب بـ 20 جنيه استروكس بيقسمها على أربع سجاير والي بـ10 جنيه بقسمها على اتنين".واستكملت:" لما بحس إنى عندى قدرة اهد الجبل، بجيب من أى حد من الشاب الي واقف على ناصية الشارع، وبقالى سنة أهو بشرب".لتختتم حديثها تاركة ابتسامة على ثغرها المُنهك الحديث:"أنا عاوزة أتعالج أنا غصبت نفسى وبطلت التامول ونفسى أبطل الاستروكس".أما عن "حسين" كان يعمل ميكانيكيًا قبل أن يجذبه أصحاب السوء إلى لعنة "الاستروكس"، يجلس أمام الكاميرا ما بين التردد فى سرد الحديث وما بين الصمت، وبعد تفكير طويل قطع الصمت المُخيم بالغرفة قائلًا: "ماشى هتكلم".يلمس بأنامله على أنفه ويقوم بفركها قليلًا وكإن الحديث عن "الاستروكس جذب رائحتها إلى أانفه:"أنا بشرب الاستروكس أول ما نزل، بجيبها من أرض عزيز عزت، فى الأول كنت بشرب سيجارتين حشيش فى اليوم دلوقت مالوش أى لازمة"."لازم الإستروكس يكون فى جيبيى ومعرفش أمشى من غيره" هكذا قالها حسين بصوتِ يغالبه الحسرة وكإنها يقول بإنه لا يرتضى بمحاصرة الاستروكس لحياته.واستكمل:" أنا بقيت أخد منوم عشان اقدر أنام، وينسينى الاستروكس، بقوم من النوم لازم يكون فى دماغى".بعد الانتهاء من الحديث، لفتت صاحبة المنزل إلى الطُرق التى يُخفى بها الشباب والصبية الاستروكس، فيتسللون خفية ليلًا ويضعونها فى عمدان الإنارة، أو بلوح الكهرباء الذى يلتصق بواجهه المنزل، أو إلقائها بإحدى الأكياس الممزقة بجانب فرش الأسواق، أو دفنها بجيوب الصغار فلن يشتبه بهم أحد.تواصلنا مع الدكتور جمال فرويز استشارى الطب النفسى، قال إن الاستروكس كان يستخدم فى تنشيط الثيران، منوهًا بإنه أقدم على عياداته الكثير من مدمنى الاستروكس والذى يتراوح أعمارهم ما بين 18 لثلالثين عامًا.وتابع فرويز لـ"أهل مصر" أن الاستروكس يتسبب بهلاوس سمعية وبصرية للمدمن، وبه مادة تتسبب فى قبض للأوعية الدموية خاصة لو المدمن ضغطه مرتفع.وأكد فرويز أن من يتناول الاستروكس فجأة قد يتسبب له بجلطة بالمخ وتوقف بعضلة القلب، لافتًا إلى أن أضرار البانجو أو الحشيش لا تتعدى 10% من أضرار الإستروكس، بسبب المركّب الكيميائي الذي يحتويه.وأردف:" عبارة عن خلطة جديدة مصنعة من نبات القنب، وبعض المواد الكيميائية، منها الأتروبين والهيبوسيامين والهيوسين، كاشفا أنه عند تصنيع هذا المخدر كان الغرض منه أن يعادل تأثيره تأثير مخدر القنب الهندي والماريجوانا والبانجو والحشيش، ولكن بطريقة كيميائية خالية من مواد طبيعية، وكان من المفترض أن يتم استخدامه لتهدئة الأسود في أثناء عرض السيرك، وكذلك كمهدئ للثيران، ولكن استخدمه تجار السموم ليصبح المخدر الأول في عالم التعاطي الآن".