"شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني" للناقد الدكتور عزوز علي إسماعيل

كتب :

لا غَرْوَ أن الدراسات الأدبية للرواية في العصر الحديث تمتطي صهوة الشعرية في الوصول إلى كنه النص الأدبي، واستنباط ما فيه من شذرات إبداعية، يمثلها البوح الجارف في الابتعاد عن الطرق التقليدية لدراسة النصوص؛ ذلك أن دراسة الشعرية باعتبارها خصيصة أدبية من الدراسات الحديثة في النقد الأدبي، ولعل ما قُدِّم في هذا المجال لا يكفي حاجة الباحثين منه، الأمر الذي كان سببًا في صعوبة هذه الدراسة، والكامن في قلة موارد الشعرية الأدبية، وقد حاولت الدراسة الاستفادة من كل ما كُتب في هذا المجال بقدر المستطاع، والاستناد إليه على اعتبار أنه منطلق لها، هكذا بدأ الدكتور عزوز علي إسماعيل كتابه المهم " شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني" وهي دراسة تستحق التقدير والفهم الجيد لأبعاد ذلك الفضاء.

وقد اختار شخصية أدبية متميزة وهو الكاتب الكبير جمال الغيطاني ومن لم يعرف الغيطاني، لا بد وأن يعرف أنه وبعد أن صدر كتابه الأول عام 1969 تحت عنوان " أوراق شاب عاش منذ ألف عام" والذي تضمن خمس قصص قصيرة كُتبت بعد نكسة 1967، دعاه المفكر محمود أمين العالم للعمل فيها، بحكم أن الأخير كان رئيسًا لمؤسسة أخبار اليوم الصحفية، وبدأ يتردد على جبهة القتال في أثناء حرب الاستنزاف؛ ومن ثم أصبح علامة من علامات الصحافة المصرية، سواء أكان من خلال كتاباته الأدبية الراقية والتي تجلت في عشقه للأماكن والأضرحة أم من خلال المقالات الصحفية التي راقت لمن يقرأها.

وقد استطاع بحسه المرهف أن يستنطق المكان ويجعل له رونقًا وحسًا وبهاء، حيث جعله هوية من هوياته الشخصية كما كان الحال عند أستاذة نجيب محفوظ بحكم أن المكان تاريخ وفلسفة وهو أول ما يسعى المرء من أجله وآخر ما يتبقى منه، فيذهب البشر ويبقى الحجر شاهدا على ما سبق.

جاء كتاب " شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني " للناقد الأدبي الدكتور عزوز علي إسماعيل في ثلاثة فصول بعد المقدمة والتمهيد؛ حيث اشتمل التمهيد على ثلاثة مباحث؛ المبحث الأول تناول فيه الباحث مفهوم الشعرية، معتمدًا على بعض الآراء السابقة، سواء أكان في التراث النقدي القديم أم في الحديث، بعد أن ذكر مفهومها المعجمي، بحكم أنها تطورت وفق تطور مراحل الأدب، وبحكم دخولها في ملتقى علوم مختلفة؛ سواء أكان في الدراسات الأسلوبية والعلوم اللسانية، أم في الدراسات التأويلية السردية، وكيف أن التاريخ الكلي للشعرية ما هو إلا إعادة تفسير النص الأرسطي على اعتبار أن الأدب محاكاة، فكانت نظرية النظم عند عبدالقاهر الجَرجَاني بمثابة البداية التي تبحث عن قوانين يُحكم بها على العمل الأدبي، من خلال التأويل باعتباره قانونًا لشعرية النظم، وتطرقت الدراسة إلى العصر الحديث لمعرفة النظرة الحديثة للشعرية عند كل من رومان جاكوبسون؛ حيث شعرية التماثل والتي استندت إلى المبدأ الشكلي في أن اللغة الشعرية ذاتية الغاية مقابل اللغة اليومية التي تحيل على موضوع يقع خارجها والدكتور كمال أبوديب صاحب شعرية الفجوة: مسافة التوتر؛ حيث حاول كمال أبوديب أن يمنح مفهوم الفجوة مسافةً شمولية تسمو على مفاهيم الشعرية الأخرى. وشعرية الانزياح لجان كوهن والتي انحصرت في تماثل الدوال مثل التماثل الصوتي، وتماثل المدلولات وكذا العلامات. والدكتور جابرعصفور قد جعل اللغة أساسًا للشعرية، وأخيرًا استخلصت الدراسة تعريفًا للشعرية، يكمن في أن الشعرية قانون يحكم من خلاله، ومن خلال القراءة التأويلية، على الإبداع؛ لمعرفة الأبعاد الخفية، والمعاني الثانية لهذا الإبداع متسلحة ـ أي الشعرية ـ

في الوقت نفسه بأنواع المعارف السابقة، وما يستجد منها. وقد ارتأت الدراسة شعرية الظل الفضائي الراقد خلف الفضاء، واستطاعت استجلاءه باعتباره قانونًا جديدًا في دراسة ذلك الفضاء، مرتكزةً على عنصري المعنى والخيال في ظل القراءة التأويلية.

وفي المبحث الثاني تطرقت الدراسة إلى نقطة جوهرية، من خلال تعريفها للفضاء الروائي، وهي ما استخلصته في النهاية من خلال ما دللت عليه بأن الفضاء له ظل ظليل، وأركان مختلفة، وامتدادات متعددة، تظهر في الحركة التأويلية وأن الحيز جزء منه، وقد توصلت إلى هذا من خلال عروجها على لفظة الفضاء بدءًا من المعنى المعجمي وتداول اللفظة في القرآن الكريم والحديث الشريف، ووصولًا إلى الشعر العربي وآراء المحدَثين، وطرحت سؤالًا ذا أهمية، يكمن في مَنْ يملك الفضاء الروائي؟ هل الأشخاص أم الأزمنة أم الروائي نفسه؟ وما العلاقة بين الفضاء والمكان؟ لتصل في نهاية المطاف إلى أن العلاقة بينهما هي علاقة الكل بالجزء، متخذة في طريقها التحليلَ والاستنباطَ وسيلتين للتوصل إلى تلك النتيجة، معارضة في الوقت نفسه ما ذكره الدكتور عبدالملك مرتاض، حين قال إن الحيز هو الفضاء الروائي، متخذًا ـ أي الدكتور مرتاض ـ

من أراء الدكتور حميد لحمداني سبيلًا لإثبات ما يقوله، وفي النهاية تناولت الدراسة الحديث عن ظل الفضاء وفضاء الظل، وكيف أن المعنى والمتمثل في [القراءة والفهم] هو الركن الأول من أركان الظل الفضائي، أما الركن الثاني فهو الخيال والذي يضم [التصور والتأويل]. ثم كان المبحث الثالث وتحدثت فيه الناقد عزوز علي إسماعيل عن مفهوم شعرية الفضاء، بحكم أنها هي ذلك النسق المعماري الذي نستشف من خلاله إبداع الفنان وفن المبدع، وكيف أن شعرية الفضاء تختلف من رواية إلى أخرى.

أما الفصل الأول فقد عُنونَ بـ " أصداء المكان " بدأه الناقد بمقدمة ذكر فيها أهم ما يميز كتابات جمال الغيطاني، والمتمثلة في عنصر الإحالة عنده، بالإضافة إلى الجانب الصوفي المتغلغل في شخصيته، فضلًا عن سمات أخرى ذكرها في تلك المقدمة، وأتبع ذلك الحديث عن أمكنة الأشياء وأصدائها؛ نحو النوافذ، الجدران، الأركان، الأسقف، الأقواس، البيت، المقهى، وأضفت لما سبق المدينة والظل الفضائي، فضلًا عن المكان المتحرك وحركة المكان من خلال تجربة القطار، وتحدث عن أبعاد المكان لديه.

وجاء الفصل الثاني حاملًا عنوان "تعالقات الزمان بالمكان في دفاتر التدوين" ووقفت الدراسة فيه على بعض النقاط الأولية لذلك التعالق، موضحًا تاريخ الزمكانية، وكيف أن ميخائيل باختين أول من أطلق هذا المصطلح عام 1938 ومن الصعوبة بمكان الفصل بين الاثنين، وانصبت تلك التعالقات على الروايات الثلاثة المستخدمة في مجال الدراسة؛ " خُلسات الكرى، رشحات الحمراء، ودنا فتدلى " وتناولت الأنثى وتعالقات الزمان بالمكان، فضلًا عن الأصوات مع الوصف والسرد، من خلال التجربة الصوفية الرائدة عند جمال الغيطاني، والتي تجلت في معظم كتاباته.

وأخيرًا جاء الفصل الثالث تحت عنوان الخطاب الروائي في دفاتر التدوين، تناولت الدراسة فيه تاريخ الخطاب في التقديم النظري، معتمدةً على الأراء السابقة في بعض الرؤى، سواء أكان عند جيرار جينت أم عند هاريس من خلال تعريف الخطاب، فضلًا عن بلومفيلد وبنفنست، وعرَّفَ الناقد الخطاب في المفهوم السردي، متناولًا المروي له ووظائفه، والعلاقة بين السرد والحوار، وكذا السيرةَ الذاتية والخطاب الروائي ومكوناته، وقد تحدث عن جزئية مهمة وهي الفضاء باعتباره عنصرًا من عناصر الخطاب الروائي، وبعدها تناول الباحث تحليل عناصر الخطاب في الروايات الثلاثة، الزمن والصيغة والصوت السردي، وقد عبر الأستاذ جمال الغيطاني من خلال ذلك الخطاب عن حبه الدفين للحضارة الإسلامية، وعراقة الحضارة الفرعونية؛ والتي كلما ابتعد عنها وجدها أمامه؛ سواء أكان في الشرق أم في الغرب؛ دامجًا فيه ـ أي الخطاب ـ الحس الصوفي الراقي، معرضًا للهوية العربية والتي ما انفك يتناولها في كل المحافل من خلال التاريخ المشرِّف للأمة العربية عبر قلمه الحاد الرصين، مع ذاكرة الضوء الحديدية، والتي لا مناص عنده من الخلاص منها؛ خوفًا من أن يمرق من جلدها، أو أن يصبأ عن جنسها؛ إنها ذاكرة الضوء المنبعث من حضارتين عريقتين؛ الفرعونية العتيقة والإسلامية النورانية. فالعمارة هي ذاكرة، وفلسفة، وسياسة، وتاريخ، تستمد سلطتها من البشر، وهي أهم ما ينتجه الإنسان، وآخر ما يتبقى منه. وهو في طريقة إلى هذا أراد أن يذكرنا بأن الحضارة الفارسية كانت العمود الفقري للحضارة الإسلامية؛ حيث عنون كل الدفاتر بلفظتي دفاتر التدوين وهما لفظتان مأخوذتان من أصل فارسي، وكأنه أراد تغليف الحضارة الإسلامية بالحضارة الفارسية وقد أوضحتُ ذلك في نهاية البحث تحت عنوان سيميولوجيا العنوان.

وختم الناقد عزوز إسماعيل الدراسة ببعض النتائج التي مثلت نقلة كبيرة في النقد الأدبي في دراسة الرواية وكان منهجه فيها هو المنهج السردي المفعم بالتأويل، سواء أكان في الفصل الأول أم الثاني، وقد آثر استخدام المنهج السردي في دراسة شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني؛ بحكم أنه أنسب المناهج النقدية في دراسة أديب مثل الغيطاني لما تميزت به كتاباته بالسرد المفعم بالخيال أحيانًا وبالواقعية أحيانًا أخرى؛ حيث إن السرد فعل يقوم به الراوي الذي ينتج القصَّ، وهو فعل حقيقي أو خيالي ثمرته الخطاب الروائي. وهو عملية إنتاج مثَّل فيها الغيطاني دور المنتج، مستخدمًا فيها السرد اللاحق، وهو السرد الشائع في الرواية، والذي يشير فيه الراوي إلى أنه يروي أحداثًا قد وقعت في الماضي، سواء أكان هذا الماضي بعيدًا أم قريبًا. أما الفصل الثالث فقد مالت الدراسة قليلًا نحو المنهج اللساني خاصة في ظل تناول الخطاب الروائي؛ لأن الخطاب الروائي متشعب الرؤى والامتدادات، وهو حلقة ربط بين علوم مختلفة في مجال النقد.

ومن نتائج الكتاب

(1)إذا كان الفضاء الروائي، وما تمخضت عنه المفاهيم الأولى للدراسة، أعم وأوسع من الأماكن، وأن الأماكن هي التي تسبح بين طياته ـ وهو ما أثبتته الدراسة ـ فإن شعرية الظل الفضائي هي الامتداد المعنوي للخيال الروائي على صفحات الرواية، من خلال الأركان الأربعة لهذا الظل. وقد برهنت الدراسة على أن تلك الأركان قد تمثلت في المعنى بركنيه[ القراءة والفهم ]، والخيال بركنيه [ التصور والتأويل ] ومن ثم تكتمل عناصر هذا الظل وتلوح في الأفق الشعرية التأويلية السردية، والتي أظهرت ذلك الظل الراقد خلف الفضاء من خلال يقظة المتلقي؛ وإذا كان الروائي في وصفه للمكان قد أخذ انعطافة، فإن الظل أيضًا سوف يكون فيه انعطافة تخيلية تأويلية؛ بحكم أنه لا يستقيم الظل والعود أعوج؛ ذلك أن الدارس أوالمطلع على تلك الفضاءات يعتبر بمثابة الشمس التي تنير له ذلك الظل، من خلال فعل القراءة، والذي تحدثت عنه كلٌ من سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان في كتابهما " القارئ في النص"، مقالات في الجمهور والتأويل.

(2)المكان عند الغيطاني ليس مفككًا أو مضطربًا كما هو الحال عند مارسيل بروست، في روايته " بحثًا عن الزمن الضائع " والتي قام جيرار جينت بتحليلها، في خطاب الحكاية، بل إن مكانه مترابط له أيديولوجية في العمل الروائي وله أبعاده الفسيولوجية والجغرافية والتاريخية؛ لأنه يحكي نفسه وسيرته الذاتية، وقد ساهم هذا المكان في خلق المعنى داخل العمل الروائي، الأمر الذي أثّر بطبيعة الحال على شعرية التأويل، فكانت بمثابة المتتابع لحركية المكان؛ خاصة في دنا فتدلى، والتي تعتبر من الروايات النادرة؛ بحكم أنه جعل فيها المكان يتحرك وهو ما أوضحته شعرية الفضاء في الفصل الأول من خلال " حركة المكان والمكان المتحرك".

(3)الفضاء الروائي قد عُد إشكالًا، تتعرض له الدراسات المختلفة؛ بحكم أن المعنى الخاص به لا ينتجه الأديب فحسب، بل يشاركه فيه القارئ أو المتلقي؛ سواء أكان بالسلب أم بالإيجاب، ذلك أن القارئ أو المتلقي، ومن خلال ثقافته، يستطيع أن يستنبط دلالات أخرى للنص، قد يتعمد الروائي إخفاءها، وتظهر أكثر حينما يترك بعض الجزئيات الناقصة في الرواية ليقوم المتلقي بإكمالها، من خلال وعيه وحسه بما قرأه، وتظهر أكثر في الروايات التي تتعمد الغموض في تفاصيلها، ومن هنا يمكن أن نقول إن المتلقي يشارك المؤلف في العمل الروائي، وفي معرفة تأويل فضاءاته.

(4)أصداء المكان عند الغيطاني في الروايات الثلاث [ خلسات الكرى، دنا فتدلى، رشحات الحمراء ] مثلت له حالة رائعة؛ حيث وجد فيها نفسه. ففي النوافذ نراه قد تطلع منها على ذاته والآخرين، ونظر منها، وهو في الأندلس على الحضارة العربية، وبالتالي حدث له نوع من الانسجام النفسي؛ لأن تلك النوافذ كانت مفتاحه ليرى بها الآخرين، وكانت نافذته في رشحات الحمراء، والتي أطل منها على الأنثى.

(5)إن الظل الممتد من الأركان والجدران والأسقف والأقواس هو الحياة بالنسبة له؛ لأن الدخول فيه له علاقة وطيدة بالمسافة بين الرحم والحياة، فالعمارة وما بها من هندسة دقيقة قد أثرت بكل الطرق على حياة الغيطاني؛ لأنه مؤمن بأن الإنسان يظل طيلة حياته يبنى ثم يترك مابناه وشيده، ومن ثم يرحل البشر ويبقى الأثر من خلال الحجر كشاهد على ما سبق، فضلًا على وجود لمسات الحس الصوفي المتناهي في ذكره للمساجد والقباب والأقواس والجدران والأركان، وما كان من أسلوب وفلسفة عاش فيهما مع ابن عربي وابن إياس. وبالتالي نرى ظاهرية الغيطاني في منهج كتابته؛ حيث الخيال الواسع المتقد والبناء في الوقت ذاته.

(6)المكان هو مصدر إلهام الغيطاني، كما كان مصدر إلهام أستاذه نجيب محفوظ؛ فالبيت الذي نشأ فيه قد وجده ماثلًا أمامه في كل ما يكتبه؛ لأنه قد مثَّل له صبابة ووجدًا، فأصبح محفورًا في مخيلته، الأمر الذي انعكس على سيرته الذاتية، فنراه يتذكر صباه وأماكن لهوه ولعبه وما انتابه من أمور طيلة حياته، وهو ما رأت الشعرية أصداءه في تأويل علاقته بالمكان، ومدى ارتباطه به وكذا الزمان، فالمكان قد عرّفه بالحمراء وغيرها، والزمان قد ربطه بمراحل حياته عبر تطورها، ومن هنا تظهر تعالقات الزمان بالمكان، ونراه بوضوح من خلال المقهى وما تركه من آثار في نفسه، خاصة مقهى الفيشاوى الذي تم هدمه أمام عينيه ووفاة صاحبه على إثر ذلك، وبالتالي فإن الشوق والحنين للزمان والمكان من أسباب الزمكانية الغيطانية.

(7)الفضاء الروائي على صنفين مهمين أحدهما يؤرخ للحياة، والآخر يؤرخ للرواية نفسها، وما فعله الغيطاني في دفاتر التدوين، قد أرخ به للمكان، بينما في رواية أخرى له مثل متون الأهرام فقد أرَّخ للرواية فقط؛ لأن الأهرام معروفة ولا تحتاج إلى شيء كي يبينها، على العكس من ثلاثية نجيب محفوظ، فهناك ملايين لا يعرفون تلك الأماكن؛ بين القصرين أو السكرية أو قصرالشوق، بل تعرفوا عليها من خلال الرواية فالرواية ـ إذًا ـ أرخت للمكان.

(8)درجة الحصول عنده والوصول منتفيتان تمامًا؛ لأن في القرب بعدٌ، وفي البعد وعدٌ، وهو الأمر الذي نراه عند المتصوفة، وقد ربط الغيطاني ذلك الحس الصوفي بالحس الفني الأدبي الراقي من خلال تعالقات الزمان بالمكان، ومن خلال رؤيته الفلسفية، والتي استطاع من خلالها تحديد الزمان وانقسامه، والمكان وتنوعه، عن طريق سؤال الماضي؛ حتى يستشف عبق الذات والتراث، الأمر الذي جعله يعيش في تلك الأزمنة الماضية مع هؤلاء المتصوفين والفلاسفة، وانقسم الزمن عنده إلى زمنين على عكس ما نعرفه؛ حيث قسمه إلى زمن الحياة الأولى والزمن الأخروي.

9- الخطاب الروائي عند الغيطاني كانت له تجلياته في الزمن والصيغ والصوت السردي، وكذا المقام بالإضافة إلى المكان؛ فتجربة الزمان اتسمت بهضمها ثلاثة أزمنة للوجود الكلي؛ زمن الحكاية الأولى، وزمن القص، وهو زمن السرد والزمن الثالث هو زمن القراءة. واللحظة الزمنية عند الغيطاني؛ سواء أكانت مرتبطة بالاسترجاع أو بالاستشراف هي اللحظة التي تأتي لتسد حيزًا للحظة الغائبة، والتي نعيها من خلال الترتيب الحدثي لسيرة الحياة، فالأزمنة المتتالية للحمراء ما هي إلا دليل على صيرورة الزمن، بحكم أن المدى الزمني في الروايات الثلاث قد أخذ مسافات بعيدة، حيث اتسمت خاصية الاسترجاع عنده بالقوة واليقظة. أما الصيغ فقد طغى على تلك الروايات صيغة المسرود الذاتي والمعروض الذاتي؛ لأنه يحكي نفسه أو سيرته، واتسمت ـ من ثم ـ الصيغ بالتعدد، بحكم أنها قد تأثرت بالموضوع نفسه. والصوت السردي ارتبط بالسرد اللاحق من خلال استخدام صيغة الماضي في السرد مع اختلاف المستوى السردي، وهذا ما تجلى من خلال الحكي الجواني عن طريق ضمير المتكلم، وعلى الرغم من ذلك، فإن الأصوات قد تعددت، بحكم إدخال قصص صغيرة بداخل القصة الأم وهي السيرة الذاتية، وكان في طغيان صوت السارد أثر كبير على تلك الأصوات.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً