دير "الأنبا بولا" فاتيكان الشرق.. "أهل مصر" في مغارة "أنطونيوس عمدة الرهبان".. قصة الأنبا الذي نثر ماله على الفقراء وغادر قريته حافي القدمين في جبال الغردقة "فيديو وصور"

حكايات ظهور العذراء وقناديل النور على جبال البحر الأحمر.. وسر "بيضة النعام" الأبديةلغز أقدم حصن سري بناه الإمبراطور جوستنيان لحماية أفراد الدير.. وحقيقة السرداب الأثري لحراسة ضيوف الرب

على طريق البحر الأحمر وسط الجبال الحمراء الناعمة، ترجل الأنبا أنطونيوس، تاركا قريته بجنوب مصر، زاهداً فى طلب الحب، ترك المال والغني ، نثر أمواله على فقراء قريته من ورث والده، قصد الله بروحه وظل مستمد نور الخالق فى قلبه، ترجل حافياً على جمر ولهيب الأرض المنهكة، إلى أن استقر فى بيته الصغير، مغارة وسط الجبال العتية، لم يعد يحمل فى طياته سوي النظر للسماء والليالى الموحشة، حارب من أجل نفسه وأن يعتزل كل خطيئة، ادرك روح الفطرة الذى خلقه الله عليها، كانت الرهبنة أولى خطواته، بعد ان انعزل عن العامة، خرجت من مصر تلك الفكرة البسيطة لتنتشر فى ربوع واوساط العالم، المليىء بخطايا البشر، اصبح أيقونة "الرهبنة"، خلف من بعده أبناء تعلمه من مثابرته وروحه، كنائس انتشرت باسمه، وأصبح دير "الأنبا بولا" مكاناً تفوح عبيره بين اطياب القلب وصفائه.

- الطريق إلى قلب الدير

يقع دير الأنبا أنطونيوس على الطريق المؤدى إلى مدينة الغردقة، داخل طرق جبلية بصحراء البحر الأحمر، قرب طريق الزعفرانة، كنا نسير بسيارة سمراء اللون، بزجاج فاميه، كانت تتسللها انوار الشموس المتشابكة فى سحب كثيفة، الهواء المتطاير على الطرق، كان يحاوطنا بنسيم الشتاء ورائحته الغزيرة، تخطينا اللافتة التى تشير بالممر الرئيسي "لدير الأنبا بولا"، بدأت السيارة تنحرف يميناً ويساراً وسط الجبال العتيقة، ليظهر على الجانبين علامات خشبية أعلى الجبال، مرسومة بالصليب، أيضاً المبني المطل من وسط الجبال، محفوراً بأيدي بسيطة، تعانق صلبانه حافة الجبل، مشيرة إلى الاستمرار فى المضى قدماً نحو المبني الكبير.

الرهبنة .. كيف اخترقت أقاصي بلدان الآخرين ؟

يستقبلنا الراهب القمص فى ترحاب عتيد، منوهاً وفرحاً كعادته، ترجل على خطوات مفترقة، نحو الباب المؤدى لمغارة القديس، قمنا بنزع الأحذية، لندخل إلى المغارة اسفل الجبل، على سلالم خشبية قديمة، يميناً كان الحوائط تتزين برسومات قبطية قديمة، عرفنا فيما بعد عن معانيها، معلق على إحدى الطرقات جملة «إن أردت أن تكون كاملاً فإتبعني»، كانت الأنوار خافتة، هدوء يرسخ فى عقولنا، كيف كانت الحياة منذ آلاف السنين وسط كل هذه الجبال.

روي لنا الراهب القمص «بطرس الأنبا بولا»، عن رحلة الأنبا بولا، وكيف استقر هنا، كي يؤسس أولى حركات الرهبنة فى العالم، التى خرجت من مصر اواخر القرن الرابع الميلادى، والتى أتبعه آلاف من الشباب، الذين اقتدوا بسيرته، وعلمه وأخلاقه، فأصبحوا رهبانًا يعتزلون الناس ويعتزلون الخطيئة ويعمرون فى الصحراء الخاوية، فى احدى زوايا المغارة المضيئة، تابوتاً كتب عليه "المسيح قام بالحقيقة قام" باللغة السيريانية القديمة، يقع أسفله جسد القديس الأنبا بولا، وفى لحظات صامتة، قام الراهب القمص، يروي لنا أن القديس الأنبا بولا جاء فى إحدى الليالى بمنام اسقف الدير الأسبق، ليقوده إلى مكان مدفنه، فى رواية اشبه بأساطير العصور الرومانية، وأيضاً بحكايات المتصوفيين عن الرؤى والكرامات، الرهبنة تعني الكثير من المتصوفة، والكل فى الأرض خليلاً والكل فى الأرض يمشي متزهداً فى ملكوت الله، فتخرج ارواحهم وتلقى بالجسد المثقل بخطايا الأمس، متمشياً فى نور لم يراه الناظرين.

كنيسة فى قلب الجبل

فى أعالى الجبال آخر طريق الدير، تربض كنيسة مبنية على تراث يوناني قديم، محفورة داخل صخور متراصة على اشكال جليدية، فى قلب الكنيسة، كانت الأيقونات المسيحية بجوار القديسين فى عنقود بسيط، وأقصى اليمين المرأة ساكبة العطر ترش قدم المسيح، فيفرح بها وفقاً للقصة الشهيرة بالإنجيل، الذى ولدت فيما بعد تقاليد ثابتة بسكب العطر على قبور القديسين، فى الخلف كانت كانت لوحة صلب المسيح وتحته ثلاثة من النساء مريم العذراء ومريم المجدلية ومريم أخت اليعاذر، يجلسن تحت قدميه يخففن عن آلامه ويتبركن بتضحيته، عن واقع القصة المعروفة، داخل مذبح الكنيسة جدارية لملكة هيلانة التى قامت بتأسيس كنيسة القيامة فى القدس، ودير القديسة دميانة .

أما  كنيسة العذراء، حديثة العهد فتقع على أطراف الطريق، امامها استقبلنا القص الراهب الأنبا بولا، كانت سيدة تقف على أبواب الكنيسة منتظرة الدخول، ثم أتت ناحيتنا تطلب البركة من القمص فيضع يده على رأسها ممسكًا بالصليب، وتخفض السيدة رأسها منحنية، فى خشوع متباهي لروح القديس، ينتهى الراهب من صلاته ويؤكد لنا أن السيدة العذراء كانت تظهر فى الجبل للقديس الأنبا انطونيوس أيام رهبنته بالدير، فشيدت كنيسة العذراء على مقربة من المغارة، التى كان يتعبد فيها، قال أيضاً إنها تشبه كثيراً كنيسة العذراء بالزيتون، التى اشتهرت بظهور العذراء فوقها،وتمتلئ الكنيسة بأيقونات للقديسين، وكما فى كتب التاريخ والحضارات، دائماً الجداريات تحكي قصص عن من مروا هنا، هكذا قال لنا القمص الراوي.

الأنبا مرقص يستظل بنور الله

الأنبا مرقص كان يحب أن يشعل قناديل فوق مغارته، قال لنا الراوي:" كثيراً ما كنا نسمع معجزات، عن ما رأه الزائرون، والمحبون من رؤي القديس، يرفف بروحه فوق مغارته المقدسة"، وفى برواز صغير معلق على إحدى الجدران، أعلى سقف المغارة، كانت  "بيضة النعام" سيدة المشهد التى ترمز لقيامة المسيح حيث تركز النعامة نظرها على بيضها حتى تفقس وإن حولت نظرها عنه يفسد.

الماء التى تكسب من عين الجبل

خلف الكنيسة، كانت لنا جولة يقودها القمص، أراض زراعية يتخللها تماثيل عن الفلاحين بزراعتهم البسيطة، عين الماء التى تنطلق منها المياه فى وسط الصحراء تعود إلى القرن الرابع الميلادي، تبلل صخور القبو، وتروى أراضى الدير، كانت السياج حائل لنا، ومن بين خطوطه ، رأينا المسارات التى تفيض بها الماء، ولا تتوقف منذ قرون، تروي كل من يخطي الدير.

فى حصن الدير ..

فى الدير أيضا حصنا أثريا بنى أيام الإمبراطور جوستنيان وهو بناء مكون من ثلاثة طوابق يبلغ ارتفاعه نحو 10 مترا، كان يستخدم للاختباء من هجمات البربر والقبائل الغازية، والتى تكرر هجومها على رهبان الدير حيث كانوا يأخذون معهم الأشياء الثمينة وما يحتاجون إليه من غذاء و كساء وغيرها حتى يتمكن لهم البقاء فى الحصن لعدة شهور إلى أن ينتهى المخربون من اعتدائهم.

الحصن يفتح عن طريق أداة خشبية تتحرك بواسطة سلسلة حديدية كبيرة تلتف فى حركة دائرية أعلى المبني، لتفصل الحصن عن المبني، فى اسفل الحصن يقع سلم جبلى ممهد يوصل إلى عين الماء.

بعد الحصن، تقابل معصرة الزيتون التى تعود للقرن السادس عشر مصنوعة من الخشب، تعمل باليد، ظل الرهبان يستخدمونها فى عصر الزيتون، كانوا يستخدومنه فى الكثير من الأمور.

السرداب الأثرى .. نهاية طريق الرحلة

داخل السرداب الأثرى، الذى وصلنا منه إلى منطقة كنائس الدير والتى تضم عدد من الكنائس أهمها كنيسة القديس الأنبا انطونيوس صاحب الدير، وتمتلئ الكنيسة بجداريات أثرية تحتفظ بألوانها حتى الآن منذ القرن الرابع الميلادى، صورة مريم العذراء، وشهداء المسيحية ملونة بألوان زاهية، اللون القرمزي المشع يلفت عين الناظرين، مرسومة بطرق بسيطة تجسد معاناتهم وروحهم  التى كانت قدوة وموعظة ، لما مروا بعدهم وقبل أن الدخول للكنيسة، لفت نظرنا قائمة من زوار هذا الدير، فرأينا العديد من الزوار الذين كتبوا اساميهم على الجدران، كان من بينهم الكثير من الملوك، والشخصيات الهامة، لفت نظرنا ايضاً لوحة كتب عليها «من ركب العلا وهو أهلاً لها منزل الأيام لو كان راكب».

النهاية .. الميدة 

كما فى عهد الأديان، الكرم وحب الضيف والترحيب به، كانت من سمات هذا المكان، فكان دائماً يجذبنا الرهبان، للترحيب بنا، فنرى بعض المشروبات الدافئة فى ايديهم، يقدمونها لنا فى روح تتطوف بالمكان، تنعم بالخير والطمأنينة، وأخيراً.. كان الوقت يزحف بنا إلى غروب الليل، فكان لابد أن نذهب متجهين إلى القاهرة فى وضح النهار، لكنه كان مصمماً على الغداء قبل أن نرحل، اعتذرنا منه، فكان منه أن يقدم لنا "الميدة" فى أكياس بسيطة، كى تؤنس بطوننا عبر الطريق .

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً