إيمان الزيات تكشف ملح الأرض والهموم المخبوءة في "الكيس الأسود"

كتب : أهل مصر

من خلال مجموعته القصصية الصادرة عن دار "النخبة"، وبواسطة عدسته الدقيقة، وحاسته الصحفية الراصدة، يتجول معنا القاص (حسام أبو العلا) في طرقات وأزقة الطبقة الثالثة ليلتقط منها أبرز موتيفاته الشخوصية الموجودة ضمن مضمومة (الكيس الأسود) بموضوعاتها الإنسانية المائزة.

وأقول – معنا- وليس بنا؛ لأن الكاتب قد آثر اختيار نمط الراوي المشارك في معظم الأحايين من خلال انخراطه في الأحداث، وتفعيله لضمير (المتكلم).

وحقيقة لم يكن بالإمكان تخطي هوامش تلك المضمومة، والتي كانت بمثابة نصًا موازيًا للمتن بما صدَّرته لنا من محمولات دلالية وشعورية خدمت النص؛ "فالغلاف" الذي تتصدره صورة المرأة الكادحة - بائعة الخضار- الرامزة والمؤشرة إلى طبقتها الاجتماعية التي صبّ الكاتب جلّ اهتمامه في بوتقتها، وَجْه البطل غائبٌ، وسماته الجسدية مختفية تمامًا من هامش الغلاف ومن المتون؛ لتُسهل بغيابها حالة التقمص والانزياح لدى القارئ فيتمثل دور البطل الذي لا يظهر منه بوضوح سوى عضو واحد هو (اليد) القابضة على الكيس كعلامة سيميائية أخرى تدل على الحالات التي تتراوح بينها شخوص المجموعة وهي إما حالة "الإيثار" أو "الأثرة"، أما عن صورة وعنوان "الكيس الأسود" الذي يبلغ عنده التأويل ذروة انفتاحاته، فهو منفتح على دلالة (الخير، أو الشر، أو الإثم، أو الألم...) المخبوء.

بالإضافة إلى دلالة اللون "الأسود" الذي انتشر من عتبة الغلاف للمتن (شكلًا بالرسم)، و(رؤيةً مغبشة أو منعدمة بالعتمة، والغرف المظلمة)، و(ملمسًا في أردية الأبطال وملابسهم)، و(احساسًا في رؤيتهم لواقعهم المأزوم).

ذلك اللون القوي والقادر على التعيبر عن مجموعة من المشاعر الإنسانية السلبية (كالحزن، والغموض، والشر، وانعدام الرؤية، والتخفي عن الآخرين...) تلك المشاعر التي مارست الضغط على شخوص المجموعة وأبطالها الرئيسيين المنحسرين خلف عوائق (الفقر، والجهل، والمرض) هؤلاء الكادحون الذين تنتهي حيواتهم غالبًا بالموت حين يخسرون معاركهم مع المرض، فالموت شبح مهيمن على الفضاء السردي، وهاجس يؤرق الكاتب، ويطارد شخوصه، والفقر ملازم لهم فهم إما (عمال، أو خدّام، أو مساعدين...).

"نحن لا نزع الشوك، لكننا حفاةً نسير عليه..!".

هذا ما يصوره الكاتب من خلال أحداث قصصه التي يركن فيها البطل التائه عن مرفئه إلى حضن (الجدة، أو الكهلة) التي يستعيض بحنانها وحكمتها عن دفء وحنان الأب والأم، فالأسر مشروخة، وأسسها جوفاء، لا تصدّر سوى القسوة، والجفاء، والخذلان لأفرادها، ويتبادل فيها الآباء والأبناء العقوق بشتى صوره وأشكاله. أسر يكدح كل من كان فيها كي يكسب قوت يومه أي يستكمل مشوار حياته كبقية البشر.

لذلك اتكأ (أبو العلا) على خاصية "الاستبطان" وعمد لتقنية "التذكر، والاسترجاع الفلاش باك" التي خلخلت كرونولوجية "الزمن

الطبيعي"، وأفسحت المجال "للزمن النفسي"، وغلبت على لغة شخوصه (المناجاة حديث الذات)، وانحسر الحوار مقابل مساحات السرد الممتدة، وبصفة عامة جاءت لغة النصوص بسيطة من غير اسفاف ولا تكلف، وصفية رقيقة، وتخييلية. 

تعددت الفضاءات المكانية "الطاردة" فلم نرصد أي حالة من حالات (النوستالجا الحنين) لمكان ما دون غيره، وهي خاصية ملازمة للشخصية المضطربة، والمتأزمة.

الحبيبة في مجموعتنا هي معادلات موضوعية لأسمائها: (دنيا، وزهرة، وشروق، وأمل...) يلازمها ألم حاد كاستلال سكين من قلب، أو رشق سهم فيه.

تسكن البطل الرئيس روح مثالية، "طوباوية" في أغلب الأحيان فتدفعه دفعًا للتضحية، وللعطاء دون انتظار مقابل، ولتفسير الأمور على أحسن أوجهها، والتصرف وفق هذا التفسير الذي لم يكن صائبًا في بعض الأحوال.

برع (أبو العلا) في استعارة صوت المرأة، واطلاق شكواها والتعبير عن حالاتها في تلك الحالات التي تكف فيها عن الكلام من فيض الألم أو الخجل أوالانكسار، كالأم التي يعقها أبناؤها، والمرأة المطحونة والمثقلة بالإلتزامات، وفي أمور المخادع الشائكة كالأذى الجسدي، والحرمان الجنسي، والعلاقات المغلوط خارج منظومة الزواج، والمحرم على المرأة الخوض فيها، كما في قصصه (جحود، ورحلة العمر، اغتصاب...).

بينما كان العطاء مخبوء في "الكيس الأسود" كان الجرح مخبوء في "درج المكتب" مع أرقام هواتف الراحلين، ورسائلهم.

وغريب أمر هذه المجموعة التي استطاعت التوفيق بين الأضداد بحضور "الواقعية الكفكاوية"، والحلول "الطوباوية" جنبًا إلى جنب ليحوّل (حسام أبو العلا) نصوصه إلى نصوص عجائبية بعض الشيئ، فإذا ما انغلق باب فتح الكاتب نافذة على الأمل، كأنما هناك مُرسلة مؤداها: "أنه كلما تأزم الواقع وكان كالحًا وسوداويًا، كلما كان المجتمع في أمس الحاجة ليخرج أفضل ما فيه من صفات (الإيثار، والتسامح، والتضحية، والمحبة) بين أفراده، وطوائفه؛ فساعتها لن يليق الأسود أبدًا بمجتمع كهذا.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً