أديبة استثنائية، وفتاة غير عادية بكل أنواع القياس فى عصرها، أوتيت من سحر الكلم وبلاغة اللفظ وذكاء المعنى، ما لم يؤت غيرها من فتيات جيلها وما بعد جيلها، أصابت كل من حولها بسهم الإعجاب بها.. هي فى كل حالاتها تثير الإعجاب، إن صمتت فعين الناظرين تتأمل، وإن تكلمت أطربت الأذان والأذهان.لها من هيبة الحضور ما جعلها كآلهة إغريقية.. أحبها الجميع، وحاولو الاقتراب منها والتقرب إليها، وكانت هي بعيدة بعيدة، كل من حاول السفر إليها كانت تقطع هي مسافة عكسية، مسافرة بقلبها إلى الغرب، هناك حيث يقطن السر واللغز الذى حمل اسم (جبران خليل جبران).لم يستطع أحد دخول قلبها، إلا رجل مغترب، أسرها فى حبه دون الاقتراب منها أوالنظر إلى عينيها، إذ أنهما ( هو وهي) على كثرة الشوق بينهما لم يلتقيا أبدا !، وكان فى ذلك حيرة وسر، وعظيم حب.. هي امرأة تتوهج فكرا وجمالا وعلما، وتتقد ذكاء وحكمة وبلاغة، فكيف حال رجل التقى بهكذا امرأة؟.. مسكين هذا الرجل، كالأديب الرافعي الذى كتب عن مساكين الحب بعد أن غرق إلى عنقه فى حب مي زيادة.جلسة الثلاثاء
قاعة كبيرة الأهمية، أعدت إعدادا جيدا لاستقبال الحاضرين، وكراسى متراصة داخل القاعة، صفين على اليمين واليسار، يتوسطها الكرسي الخاص بـ (مي زيادة).. على الأطراف يجلس حولها الكبار، كبار الشعر والأدب والثقافة أمثال عباس العقاد وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأديب النابغة مصطفى صادق الرافعي وغيرهم، كوكبة من العظماء تحيط بهذه النجمة الشمسية، الكل ينظر إليها فى إكبار واحترام وكثيرهم ينظر لها بحب.فى تلك الجلسات والحلقات الأدبية التى كانت تعقد، يوم الثلاثاء من كل أسبوع بمنزل مي زيادة، كان بريق الأديبة الفاتنة، يزداد، ولمعانها يكاد يضيئ، واعتزازها يرسخ، وكبريائها يعلو، وذكائها يتوهج.. تمتد بساطتها لتحيط الجميع.. شخصية لها من قوة الحضور بمقدار ما كانت تملك من عظمة البساطة وبساطة الكبرياء.قال عنها الأديب والكاتب أحمد حسن الزيات: "تختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة".. وذات جلسة، كان الدور على الشاعر عبد العزيز فهمي ليتكلم ويناقش كغيره، فما كان منه إلا أن نظر إلى مي زيادة وقال: النظر هنا خير من الكلام ومن الإصغاء".. أحبها العقاد وبالغ فى الحب وزاد، حتى أنها لما ماتت رثاها بقصيدة حب تفيض بالحزن، فقال:شيم غرّ رضيات عِذاب .. وذكاء ألمعي كالشهاب.. وجمال قدسي لا يعابكل هذا في التراب. آه من هذا التراب.أما الأديب الرافعي، فقد أحبها كما لم يحب رجل امرأة، لقد كان حبا باذخ الألم! حيث أن الرافعي لم يجرؤ على التصريح لها بحبه، فظل هائما مسكينا طوال حياته، كتب لها ألاف الكلمات التى لم تصلها أبدا، ولكن ثمة جانب إيجابي، إذ كانت كلمات الرافعي التى شملتها كتبه ومؤلفاته بمثابة كنز أدبي توارثته الأجيال فى انبهار ببلاغة الرافعي وأسلوبه الأدبي الرائق والرقراق.. وهكذا عاشت مي زيادة ـ أديبة تلهم الأدباء، ومبدعة تصيب غيرها بالإبداع وإن امتزج بالألم.أقوال أبدعتها:
"الكلمة التي لا تموت تختبئ في قلوبنا"... "إني أخاف من الحب كثيرًا، لكن القليل من الحب لا يرضيني"."كيف أشفق على الذي يبدد ألمه في الشكاية والتظلم فلا يبقى منه ما يستدعي الشفقة؟ كل شفقتي تتجه إليك أنت الذي لا تشكو مع أن ألمك صامت لا حد له ولا نهاية"."قضبان النوافذ في السجن تنقلب أوتار قيثارة لمن يعرف أن ينفث في الجماد حياةً".ومن أبرز أعمالها، "كلمات وإرشادات"، و"ظلمات وأشعة"، و"سوانح فتاة"، و"الحب في العذاب"، و"رجوع الموجة"، و"ابتسامات ودموع".هي وجبران
عشرون عاما من الحب المتقد، عاشتها مي زيادة فى حضرة الحب مع جبران خليل جبران، الرجل المسافر دوما والذى لن يأتى أبدا، ظلت تراسله ويراسلها، كان هو فى أمريكا حيث أقصى الغرب، وكانت هي بمصر حيث درة الشرق.كانت تدعوه للعودة، ولكن شيئا فى أعماق فكرها وقلبها كان لا يريده أن يعود!، حيث أرسلت إليه ذات حب، رسالة كتبتها ببلاغة أديبة ومشاعر محبة قالت فيها :تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك. تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة، وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة والحب".ورغم كل هذا الشوق للقيا، كانت مي زيادة تسافر إلى عواصم أوروبا وتقترب فى المسافة من جبران، ورغم أنها كانت قادرة على الذهاب إلى نيويورك حيث يقيم، إلا أنها دوما لم تذهب !.وكتب هو إليها ذات عيد: "أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة".وظلت الرسائل تتوالى، والكلمات تخطها الأقلام، والمشاعر تترجمها البلاغة، والأدب يزداد غنى وثراء، والحبيبان يزدادان شوقا ولهفة وتوقا للقاء لم يأت.وفى حياة مي زيادة، كثير وكثير من كلام وحكايا وأدب ومعرفة وعلم وانبهار وإشعاع، ودروس.. وحياة ونوع من الحب نادر.ويذكر أن مي زيادة ولدت في مدينة الناصرة، وهي ابنة وحيدة لأب لبناني وأم فلسطينية أرثوذكسية، تلقت دراستها الابتدائية في الناصرة، والثانوية في عينطورة بلبنان، عام 1907، انتقلت مع أسرتها للإقامة في القاهرة.درست في كلية الآداب، وأتقنت اللغة الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية ولكن معرفتها بالفرنسية كانت عميقة جداً ولها بها شعر.