ثلاث أعوام مرت على رحيل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي "الخال "، والذي تحل ذكراه الثالثة في الحادي والعشرين من شهر أبريل الجاري .
ولد الأبنودي في عام 1938 بقرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، لأب كان يعمل مأذوناً شرعياً وهو الشيخ محمود الأبنودي، وانتقل إلى مدينة قنا وتحديداً في شارع «بني على» وتأثر بأغاني السيرة الهلالية.
الأبنودي اسمه نسبة إلى قرية أبنود، فهى مَن صنعته، وكان دائما يردد أنه مدين إلى قريته، وهذا نوع من الاعتراف بالجميل والعرفان بأن هذه القرية كانت سببا مهما فى اكتساب خبرته منذ الصغر، حيث كان يرعى الأغنام، ويخرج مع الحصادين، وكان يخرج مع والدته الحاجة فاطمة قنديل ليسمع أغانى الفلاحين، ولذلك كانت أبنود متأصلة بداخله أينما رحل وأينما ذهب حتى عند قدومه لمحافظة الإسماعيلية، وكان يتمنى نقل قرية أبنود لها.
الأبنودي كان عاشقا لتراب هذا البلد، وعندما كان يكتب قصيدة أو ديوان شعر كان يكتبه لمصر، وحتى لو كان المنتج عاطفيا، الأبنودى ظل يعشق هذا الوطن حتى آخر لحظات حياته، وكان يردد دائما أن الشعب المصرى لا يقدر عليه أحد.
تزوج «الخال» من مخرجة الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي، ولكن زواجها لم يدم طويلًا فانفصلا عن بعضهما البعض، وبعد ذلك تزوج من الإعلامية نهال كمال، وعاش معها طوال حياته، وأنجبا منها ابنتيه آية ونور.
من داخل منزله بالاسماعيلية الذي يبعد أمتارا قليلة عن مقبرته تقول زوجته نهال كمال والتي تعودت زيارة رفيقها وحبيب عمرها أسبوعيًّا وهى تحمل باقات الورود أنه «لم، ولن يموت».. فهو الآن فى ذاكرة المصريين والتاريخ.
منزل الخال صممه بنفسه فقسمه لغرف وسمي كل غرفه باسمها اهمها «الكتبخانه» وما تحويه من كتب ثمينة والتي استقبل فيها الشعراء العظام واصدقائه المقربين فيها مكتبه البسيط الذي يزيد عمره عن اربعين عاما، قراءة الجرائد كل يوم وفنجان القهوة من البن المحوج كانت طقوسه اليومية، فكان يعشق الطبيعة، والخضرة وكان منزله حديقة مليئة بكافة أنواع الأشجار والزهور، مهتما بأشجار المانجو، معالجا الأشجار التالفة منها وكان يعرف أى شجرة سوف تثمر يتحدث للشجر بشكل دائم فكانت حياته متمثلة فى الزراعة فلم ينس يوما قريته ونشأته منذ الصغر بين الحقول على مدار 30 عاما.
كان شاعر الجنوب يقصد الشعراء الشعبيين فى جميع أنحاء وربوع وقرى مصر ليجمع السيرة الهلالية بمجهوده الشخصى، وذلك من خلال مسجل أهداه له الراحل عبدالحليم حافظ، وكان الخال يعتبر السيرة الهلالية «إلياذة العرب» ورمزا للتراث العربى، وشعر بأنه من الضرورى وجود مركز فى أبنود لمن يريد دراسة التراث الشعبى والذى، من خلاله جمع كل مجلدات السيرة الهلالية ليكون متحفا للسيرة الهلالية، وذلك تكريما لقرية أبنود.
تقول نهال كمال زوجة الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي في حديثها لـ «أهل مصر»، إن الأبنودي لن يموت في قلوب المصريين، وأنه خالد كنيل مصر والأهرامات وسيظل الأبنودي باقيا في قلوب كل من أحبه، بأشعاره وقصائده التي أمتع بها المصريين علي مدار عمره بأكمله».
وأضافت كمال «كان دائما يقول أن شعره لم يكتشف بعد وأنه يتمني أن يتم اعاده قراءة أشعاره بعد رحيله عن العالم، حيث أن أغلب الناس لا يعرفون الكثير من اشعاره إلا ما هو منتشر ومتداول كالأغاني التي قام بتأليفها لعبد الحليم حافظ وشادية وصباح وورده وفايزة أحمد ومحمد رشدي».
راهب الأغنية الشعبية
أشارت «كمال» كان للأبنودي دورا كبيرا في مشوار الأغنية الشعبية وانتشارها بعد أن كتب للفنان محمد رشدي، اتجه العديد من المطربين للأغنية الشعبية فغني عبد الحليم «أنا كل ما أقول التوبة»، وغنت شادية «اه يا أسمراني اللون»، بعدها أتجه الجميع للأغنية الشعبية بسبب كلمات عبد الرحمن الأبنودي التي حققت نجاح كبير جدا ولا ننسي ألحان بليغ حمدي وكمال الطويل الذين شكلوا مسار الأغنية الشعبية في فترة من الفترات، مشيرة أن الأبنودي أعطي 50 عام من حياته لمصر وللشعب المصري فقد كانت كتاباته من أجل مصر ، فصاغ وجدان أجيال من خلالها وكان يتمني أن يصبح هناك تطورا ملحوظا في النقد والدراسات الشعرية حيث عدم توافقهما مع كم الانتاج من الاشعار العامية.
وأشارت كمال الأبنودي بالمرأة في حياته، لافتة أن جدة عبد الرحمن «ست أبوها» ولوالدته الحاجة «فاطمة قنديل» كانتا عاملا كبيرا لأيمان الابنودي بالمرأة فكان دوما يقول إن والدته هي السبب الرئيسي في عشقه للشعر فهي من كانت تلقنه الشعر وهو طفل صغير من خلال الأغاني والأشعار والحواديت والأساطير، التي كانت حريصة علي أن تحكيها له وهو طفل، علي الرغم من أنها كانت سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكن كم الأحاسيس والمشاعر التي أعطتها له كانت هي الدافع له وكان احساسها بالحياة هو ما صنع الابنودي الشاعر والانسان والحبيب والزوج .
وأكدت أن الابنودي أوصي بأن يدفن في الإسماعيلية بالقرية التي مضي بها آخر سبع سنوات من حياته بعدما نصحه الأطباء بالابتعاد عن التلوث فقرر أن يأتي إليها وعاش فيها وكانت شقيقته تسكن إلى جوار منزلهم وكان مرتبطا بها جدا كان يعشق الخضرة والزراعة، وبحس «الفلاح» الذي كان بداخله نقل أبنود للإسماعيلية ونقل الزراعة وكل تفاصيل الحياة اليومية الموجوده بأبنود للاسماعيلية.
وتابعت زوجة الخال أنه كان بين عيد ميلاده ووفاته 11 يوما وقد تنبأ عبد الرحمن بالرحيل في قصيدة قام بكتابتها بعنوان «11 أبريل»، وقال إن هذا آخر عيد ميلاد و عيد ربيع له وبالفعل وافته المنية بعد ذلك .. «يوم وفاه الخال كان يوما عصيبا ولكن لم أشعر أنني بمفردى فوجدت الجميع يتصل بي ويقف الي جانبي في فاجعتي من فنانين ومسؤلين ومثقفين وشعراء وكان أول هؤلاء الرئيس عبد الفتاح السيسي اتذكر كلماته عندما حدثني وقال «عبد الرحمن الأبنودي ابن مصر، الأبنودي ده بتاعنا كلنا»، وتابعت «الأبنودي لسا معايا ورغم مرضه لم يكن للحزن مكان في قلبه» .
حكايات كاتم أسرار «الأبنودى»
محمود محمد مصطفى كاتم أسرار «الأبنودى»، كان يعمل مع الخال منذ عام 1986 فقد كان يحكى له كل شىء، إلا حياته الخاصة لأنها كانت خطا أحمر، لأنه كان يعتبرها الصندوق الأسود، إنما كل ما يخص الأمور العادية فى الحياة كان يحكيها لكاتم أسراره ..
ويقول كاتم أسرار الأبنوي «كان للخال طقوسا خاصة حيث يبدأ يومه بقراءة الجرائد، ثم يشرب قهوته، ويبدأ في كتابه الشعر فقد كان للشعر أهمية ومحبة في قلبه يعتبره أهم شئ في حياته، وكان يفضل النزول بنفسه إلي حديقة المنزل وتفقد أشجارها كان يمسك المقص ويقوم بنفسه بقص الأشجار والزهور التي دبلت ، وكان يتحدث مع الأشجار وكأنها انسان بطريقة لم اشهدها من قبل، وكانت أكثر الأوقات المحببة إلي قلبي عندما كنت استمع لنصائح الخال التي تخص الزراعة وعلي الرغم من علمي بها كنت انصت إليه واستمع بكل شغف فقد كنت أحب العمل الي جواره " لأتونس بيه " وأحصل علي اكبر وقت متاح وأنا إلي جواره».
وأضاف «الخال كان يكره الحزن وكان دائما يقول لي أمي الحاجة فاطمة قنديل كانت تقول «كله بيطلع في الغسيل» بمعني انه لا يوجد شئ يستدعي الحزن ، وكان الخال يعشق الضحك والفكاهة، حتي في أصعب لحظات مرضه كانت الابتسامة لا تفارق جسده وكأن يفصل جيدا بين عبد الرحمن الابنودي الشاعر والإنسان والمريض ، ولم أشعر قط أنه ضعيف حتي في مرضه».
وعن اخر أيامه قال كاتم الأسرار «كان لا يستطيع المشي جيدا من شدة المرض ولكنه كان يفضل أن يخرج ليستنشق الهواء في حديقة المنزل فكان يمشي معي قليلا ثم يجلس ليرتاح وكان الوقت المحبب إلى قلبه وقت العصر كان يفضل أن يتفقد فيه الحديقة التي حرص علي زراعتها بشتي أنواع الزهور والأشجار كالمانجو والليمون والبشملة والجوافى وغيرها وكان يطلق علي كل شجره اسما معينا».
وتقول آية عبد الرحمن الأبنودي نجله الخال «آخر حديث بيني وبين والدي حثني فيه علي أن تظل الابتسامة موجودة علي وجوهنا دائما وألا يكون للحزن مكان في قلوبنا»، وتابعت «عاوز أقول لبابا انت دايما معايا وهتوحشني اوي».
وتقول شقيقتها نور «عبد الرحمن الأبنودي عايش معايا بكلماته وضحكه وشعره وهزاره معايا كان دايما بينصحني و أحب أقول لبابا أنت محفور في قلوبنا وهتوحشني اوي وهفضل أحبك طول العمر».
جوائز في مسيرة عمدة العامية
حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية ، كما فاز بجائزة محمود درويش للإبداع العربي للعام 2014.
منذ قدوم الأبنودى للقاهرة وكتابته للأغانى كتب مفردات الصعيد بنفس اللهجة، حيث كان يرى أنها الأقرب للعربية الفصحى وأنها للقبائل العربية التى هاجرت واستقرت فى صعيد مصر. الابنودي عندما كان يقبل على كتابة عمل كان يحب الهدوء فكانت الأصوات حتى الخافتة تزعجه لأنه كان ينفر من الأصوات التى قد تخرجه عن تركيزه أثناء الكتابة.
أرصدة الخال الفنية
رحل الخال وترك رصيدا من الأعمال الفنية ومن أشهر أعماله السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يقم بتأليفها، ومن أشهر كتبه كتاب (أيامي الحلوة) والذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام، تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر.
22 ديوان هي رصيد الأبنودي خلال رحلة حياته الأدبية و كان أول الدواوين الشعرية التي ألفها هو ديوان «الأرض والعيال»، و الذي صدرت طبعته الأولى عام 1964، وبعد إصداره بعامين تعرض للاعتقال بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات الشيوعية، وأمضي في سجن القلعة نحو أربعة أشهر تقريبًا ، وفي عام 1967، صدر ديوانه الثاني "الزحمة"، وتبعه ديوانا «عماليات» عام 1968 و«جوابات حراجي القط» في العام التالي ، و«عماليات»، و «الفصول»، وأيضا قصيدته الطويلة «المد والجزر»، و «الأحزان العادية»، وخمسة أجزاء "لسيرة بنى هلال" و" الاستعمار العربي" و «المختارات» .
ترك الأبنودي رصيد اخر في مجال الأغاني التي ذاع صيتها لأشهر المطربين في مصر والوطن العربي ، فقام بتأليف عدد من الأغاني للمطرب عبد الحليم حافظ وهي " عدى النهار" ، و "المسيح" ، و" أحلف بسماها وبترابها" ، و"إبنك يقول لك يا بطل " ، و"أنا كل ما أقول التوبة" ، وأيضا "أحضان الحبايب" ، و"اضرب اضرب" ، و" إنذار" ، و" بالدم" ، وكذا " بركان الغضب "، و " راية العرب " ، و" الفنارة" ، و" يا بلدنا لا تنامي " ، و" صباح الخير يا سينا" ، وغيرها…
قام بتأليف أغنية " تحت الشجر يا وهيبة " ، و"عدوية " ، و" وسع للنور" ، و " عرباوى " للمطرب الشعبي محمد رشدي ، و " يمّا يا هوايا يمّا " ، و "مال علي مال" ، و " قاعد معاي " للفنانة فايزة أحمد ، و "عيون القلب " ، و "قصص الحب الجميلة " للفنانه نجاة الصغيرة ، كما غنت له الفنانة شادية "آه يا اسمراني اللون" ، و " قالى الوداع" .
كما كتب أغاني العديد من المسلسلات الشهيرة التي لا زالت محفورة في الأذهان وهي «النديم»، و «ذئاب الجبل» وغيرها.. ، وكتب حوار وأغاني فيلم "شيء من الخوف" ، وحوار فيلم "الطوق والإسورة " وكتب أغاني فيلم "البريء" وقد قام بدوره في مسلسل العندليب حكاية شعب الفنان محمود البزاوي. شارك الدكتور يحيى عزمي في كتابة السناريو والحوار لفيلم الطوق والاسورة عن قصة قصيرة للكاتب يحيى الطاهر عبد الله.
توفي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في القاهرة في الحادي والعشرين من شهر أبريل عام 2015، وأقيمت له جنازة عسكرية شارك فيها الآلاف من المواطنين والفنانين وكبارالمسؤليين، وعقب وفاته ، صدر كتاب "الخال" الذي يتناول سيرته الذاتية ، ووصفه مؤلفه الصحفي محمد توفيق قائلا : "هذا هو الخال كما عرفته ، مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل ، بين الفن والفلسفة ، بين غاية التعقيد وقمة البساطة ، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي ، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء ، هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض وبعض الظن إثم أن تقليده سهل وتكراره ممكن".
ذكرى وفاة الابنودي تتزامن مع ميلاده فقد ولد وتوفي في نفس الشهر، زوجته نهال كمال قامت بكتابة «حكايات نهال عن الخال» ونشرتها بإحدى المجلات الأسبوعية عن حياة الأبنودى وما لم ينشر من مواقفه السياسية وحياته العامة.
الابنودي رفض أن يدفن في الصعيد لأنه مر بتجربة دفن أصدقائه فى الصعيد «أمل دنقل ويحيى الطاهر» فكان يرى أنه من الصعب أن يتم ذلك وسيكون مشقة كبيرة على الناس وكان يقول «أريد أن أكون قريبا من أسرتي».
نقلا عن العدد الورقي.