التشبث الأوروبي بـ "الاتفاق النووي" الموقع مع إيران في 2015، والذي يستندون فيه إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين، ليس إلا شجرة تخفي وراءها غابة من المصالح الاقتصادية، ولعل ردود الأفعال الأوروبية عقب إعلان الولايات المتحدة انسحابها أمس من الاتفاق الذي وصف في وقت من الأوقات بـ"التاريخي"، كشفت أن الجانب الاقتصادي حجر الزاوية فيه.
بعيد إعلان الرئيس الأميركي، قال الأوروبيون إنهم يعرفون كيف "يحافظون على مصالحهم"، فيما اعتبر وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، في تصريحات اليوم أنه من "غير المقبول" أن تعتبر الولايات المتحدة نفسها "شرطياً اقتصادياً للعالم".
ترمب أعطى عند إعلان قراره الشركات الأجنبية المتواجدة في إيران ما بين ثلاثة وستة أشهر لمغادرتها، إن هي رغبت في تجنب تبعات استثمارها في إيران، وهي تبعات اكتوت بنارها بنوك وشركات عالمية سبق أن تكبدت غرامات أميركية بالمليارات.
وقد يبدو مستغرباً هذا التأثير الكبير للقرار الأميركي، ما دام الاتفاق يشمل أطرافاً أخرى على أتم الرضا به.. غير أن عامل الغرابة يختفي عند النظر إلى أن النظام المالي العالمي يحكمه "الدولار"، وكل من خرج من دائرة رضا "العم سام" هو بعلاقة طردية خارج ذلك النظام بأكمله.
فحتى في ظل وجود واشنطن السابق كطرف في الاتفاق، عانت طهران لقطف ثماره، فلا الاستثمارات تدفقت كما كان يرجى، ولا النفط الإيراني وجد من ينقذه من ضعف بنيته التحتية، ولا استطاعت طهران تحقيق اختراق في الصادرات مع عزوف العديد من المشترين مخافة عقوبات أميركية متعلقة ببرنامجها الصاروخي لا النووي، ظلت تؤرق اقتصاد طهران وأجهضت فرحة "الاتفاق".
مليارات أوروبية مهددة
ما يظهر أن العقوبات الأميركية عصا غليظة في عجلة النمو الاقتصادي المنشود في إيران، وهو ما يبرر كل تلك المخاوف التي طفت باكراً فوق السطح، ودفعت بالمرشد الأعلى الإيراني للخروج عن صمته. وبعد التهافت الأوروبي على الاستثمار في السوق الإيرانية عقب التوصل إلى الاتفاق النووي في 2015، تحولت تلك العقوبات إلى خطر محدق على شركات أوروبية كبرى مثل "إيرباص" و"توتال" و"فولسفاغن" و"رينو".
القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق قد يتسبب في توقف مشروع غاز بمليارات الدولارات لشركة "توتال" الفرنسية في حقل "بارس" جنوب إيران، كانت وقعته في 2017، ليكون أول استثمار غربي ضخم في قطاع الطاقة الإيراني منذ رفع العقوبات عن طهران.
كما أن عملاق النفط الأوروبي من أهم مشتري الخام الإيراني الذي يزود به مصافيه في أوروبا، وصفقات النفط تلك تجري معاملاتها بالدولار الأميركي، كما أن لـ توتال مصالح في أميركا، حيث تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع للطاقة تشمل مصفاتها في "بورت آرثر".
من ناحية أخرى، وضعت عودة العقوبات عملاق الطيران الأوروبي إيرباص في مأزق، إذ باتت صفقته مع الخطوط الجوية الإيرانية لمدها بـ100 طائرة، بقيمة تصل إلى 10 مليارات دولار، في مهب رياح العقوبات الأميركية، إلى جانب صفقات طيران أخرى مع "بوينغ" الأميركية لـ80 طائرة بـ16.6 مليار دولار.
وجميع تلك الصفقات رهن تراخيص أميركية، نظراً لاعتماد صناعة الطائرات التجارية على المكونات أميركية الصنع.
وقد بررت بوينج صفقتها مع إيران، بكونها ستساعد على خلق فرص عمل للأميركيين، لكنها علقت أمس على قرار الرئيس الأميركي بالقول إنها ستمتثل له.
إيران التي تسعى لتحديث أسطولها المتهالك بعد سنوات من العقوبات، يغري هذا النقص المهول فيها شركات الطيران الكبرى، في ظل تقديرات بحاجتها إلى ما قد يصل إلى 500 طائرة خلال 10 سنوات قادمة.
من ناحية أخرى، تهافتت شركات صناعة السيارات الأوروبية على سوق إيران صاحبة 80 مليون نسمة بمجرد رفع العقوبات عنها، فـ"رينو" الفرنسية اقتطعت لنفسها حصة أيضاً من "الكعكة" الإيرانية، وفي العام الماضي باعت 160 ألف سيارة في إيران، وفي الجزء الآخر من المعادلة الجديدة، هي كما "فولسفاغن" صاحبة مصالح كبرى في أميركا عبر شريكتها "نيسان".
ألمانيا.. اللاعب المجهول
عودة #فولسفاغن إلى إيران بقوة منذ العام الماضي بعد 17 سنة من مغادرتها، تكشف ما وراء التصريحات الألمانية عالية النبرة والرافضة لنسف الاتفاق النووي، حتى إن المجموعة الألمانية المسؤولة عن تمثيل المصالح التجارية للبلاد في الخارج، حذرت من أن الانسحاب من الاتفاق سيسدد ضربة لاقتصاد ألمانيا، بعد أن فتح الاتفاق الباب لاغتنام صفقات في إيران مع تواجد العديد من الشركات الألمانية هناك.
وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين ألمانيا وإيران العام الماضي، 4 مليارات دولار، فيما ارتفع الفائض التجاري الفرنسي مع إيران بثلاثة أضعاف خلال عامين، بحسب التصريحات الأخيرة لوزير الاقتصاد الفرنسي.
ورغم أن ألمانيا قليلة الانكشاف على ملفات إيران، إلا أن ما يفضح شدة المصالح التي تربطها بطهران، هو كون ألمانيا الطرف الوحيد في الاتفاق خارج أعضاء مجلس الأمن الخمسة (أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين)، ولطالما وصف اتفاق النووي باتفاق إيران و”5+1”، فالرقم "1" يعود لألمانيا التي أصرت على أن تحجز مكاناً لها كفيل بحفظ مصالحها الاقتصادية في إيران.
والآن أصبحت "فولسفاغن" إلى جانب عشرات من الشركات الألمانية الأخرى، في موقف المجبر على الاختيار بين مصالحها في إيران وتلك في أميركا التي تعد ثاني سوق للسيارات في العالم ومركزاً هاماً لصناعتها.
وكما أفرز قرار ترمب السابق بفرض قيود تجارية، سباقاً لنيل الإعفاءات، بدأت الأطراف الأوروبية تنشد حلولا ممكنة قد تنقذ ملياراتها في إيران، وغدا صوت طلبات "الاستثناءات" يعلو كل الأصوات المنددة وتلك المطالبة بالرد على قرار البيت الأبيض.