إنها الثامنة من ليل العاشر من رمضان بتوقيت القاهرة الكبرى، بكل ما يمتلك من قوة، أخذ الرجل السبعيني محمد خيري، يدفع باب ورشته المتخصصة في صيانة الشيشة في حارة «التمبكشية» بالقاهرة الفاطمية؛ لاستكمال عمله، بعد أن أخذ قسطًا من الراحة فور انتهائه من الإفطار على مائدة الرحمن، التي تقع على بعد بضع خطوات من ورشته.
قبيل عام 1669، اشتهرت الحارة الموازية لشارع المعز لدين الله الفاطمي بـ«التمبكشية».. لتلك الكلمة مدلول تركي، كان يطلق عليها قدميًا بـ«تمباك»، وهي تعني التبغ.ما يقرب الـ400 عام، كانت قادرة على تغيير نشاط تلك الحارة، فتحول من بيع التبغ إلى وكالات لبيع الحاصلات الزراعية، وغيرها من الأنشطة، لكن منذ عدة سنوات اختلف على عددها سكان الحارة عادت صناعة الشيشة بكافة أرجاء التمبكشية، بدءً من التركيب وانتهاءً بورش الصيانة.بخفه تحارب شيخوخته للظهور، أوقد النيران بعد أن أحاطها ببضع قوالب من الطوب الأحمر، وجلس كعادته على كرسي خشبي متأرجح يقترب من الأرض، خلف منضدة حديدية مرصوص عليها المواد الخام الخاصة بالشيشة «أنا بشتريها من المصانع عشان سعرها بيكون قليل وبركب وبلحم وأبيع للقهاوي»- هكذا وصف خيري لـ«أهل مصر» مهنته التي ورثها عن والده.
يستقر خلف «خيري» عشرات القطع النحاسية من أعمدة الشيشة، منها ما هو مرصوص على رف متهالك ومنها ما هو مستقر في عدة أجولة، بينما وجد البعض الأخر طريقه إلى الأرض "للأسف المحل صغير فبحط الخامات في كل مكان".
على أحد الأرفف المتهالكة تستقر ألوان مختلفة من الشيشة متشابهة الحجم، زجاجية الصنع، وعلق خيري على أنواع الشيشة، قائلًا «فيه شيشة استانلس وفيه كروم ونحاس.. كل حاجة وليها سعرها لكن النحاس انضف وفيه الشيشة الزجاج»، متابعًا: «الشيشة الزجاج دي ليها زبونها الخاص اللي هو يشرب في البيت لكن القهاوي صعبة تأخدها لأنها قابة للكسر سريعًا وسعرها 100 جنيه».
في نهاية حارة «التمبكشية»، يستقر عبدالمنعم أحمد، الذي قارب عمره على الـ75 عامًا، على أعتاب دكانه الذي أصبح على الطراز الحديث منذ عامين، بجانب ابنه الأكبر، ما بين كل لحظة وأخرى تطوف عينه على ملامح الحارة المليئة بالكفوف الملطخبة بدماء الأضاحي، متذكرًا حكاوي أجداده عن تاريخ الحارة.
«أنا بقالي عمر عايش في الحارة».. بتلك الكلمات بدأ عبدالمنعم يروي لـ"أهل مصر" قصته مع حارة التمبكشية، متابعًا: «الحارة متسمية على اسم الصناعة اللي كانت فيها وهي التبغ والشيشة».
اختلاف الثقافات والانفتاح الذي عاصرته مصر خلال فترات التاريخ الماضية، كان له شأن في تغيير نشاط الحارة «كل وقت وعايز حرفة معينة، وكان فيه وقت كانت الحارة كلها عبارة عن وكالات لبيع الحاصلات الزراعية ووقت كانت المحلات كلها بتبيع موازين للتجار ووقت تاني كانت أدوات منزلية بكل أشكالها».
وتابع: «مكنش فيه بيوت في الحارة، إلا أن كل تاجر كان بيبني أوضة أو بيت فوق المحل بتاعه لكن عائلات مفيش».
مع مرور السنوات، وانتشار الشيشة في القهاوى المصرية الأصيلة أو كما يقال عنها بين المصريين "قهوة بلدي"، بدأت حارة التمبكشية تكتب تاريخها من جديد في صناعة الشيشة، ومع زيادة الطلب على المنتج بدأ صغار الصناع يلجئون إلى فتح ورش لتصليح وصيانة الشيشة.
بهاتف كبير الحجم يظهر عليه الفخامة، بدأت إحدى السائحات بشعرها الأصفر المتطاير مع نسمات الهواء التي وجدت طريقها لحارة التمبكشية بينما الشمس تجمع خيوطها الذهبية، معلنة الرحيل، تلتقط عشرات الصور من داخل محلات الشيشة، فتقول لـ"أهل مصر" بلغتها العربية صعبة الفهم «الحارة هنا دايمًا تلفت انتباهنا كسائحين، مفيش في ألمانيا حاجة زي الثقافة اللي في مصر».
تحركت السائحة صاحبة الـ31 عامًا التي تدعى "مارجريت" نحو أحد محلات الشيشة، لمشاهدة المعروضات بمختلف أنواعها وأشكالها، لكنها حظيت باستقبال حافل من العاملين بالمحل، فيقول أحد العمال: "المحلات هنا مش للبيع فقط.. السائحين بنسمح ليهم يتفرجوا ويتصوروا لأن ده بيفتح طريق لينا للبيع بره مصر".
«أنا معرفش قصة الحارة بس اسمع أن اسمه خاص بالتبغ والاسم غريب وبيجذب المصريين كمان مش السائحين كمان».. هكذا علق محمد شكري، العامل بأحد محلات الشيشة عن قصة اسم حارة التمبكشية.نقلا عن العدد الورقي.