اعلان

«توتي».. جزيرة الصمود وملتقى النيلين

كتب :

إحساس بامتزاج الطبيعة داخلك وفخر ومشاعر نيلية فياضة تنتابك فور نزولك جزيرة توتي الواقعة في منطقة فريدة من نوعها ساحرة خلابة هي نقطة ملتقى النيلين الأبيض، والأزرق في العاصمة السودانية الخرطوم.

لايسعك سوى الفخر بأهل توتي الذين قاموا بدرء خطر الفيضانات منذ أربعينيات القرن الماضي مستخدمين مهاراتهم التقليدية وثقافتهم المحلية للحد من مخاطرها ما حدا برنامج الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث إلى اختيار تلك الجزيرة الباسلة ضمن أفضل 8 مناطق على مستوى العالم في استخدام المهارات التقليدية والثقافة المحلية للحد من مخاطر الفيضانات، حيث استخدموا المحاريث للردم وآلات النضح لشفط المياه من الجزيرة.

وفي جولة نيلية حول توتي بمرافقة ريس فلوكة (مركب نيلي) من أبناء الجزيرة الأبطال يدعى صالح النقاش (أصله مصري من ناحية الأم "أسيوط" بالصعيد) تجلت صفحة النيل العظيم فهو رقراق من الفضة المذابة وتشعر بفخر وأنك جزء من كل، وكما قال الشاعر عبد الرحمن الأبندوي (الخال) " كلنا الكبار والصغار نعتبر النهر هو الوالد والراعي والجدار المهيب... كل خبرة سوف نكتسبها لتشكلنا فيما بعد، إنما هي نابعة مباشرة من صلتنا بوالدنا العظيم نهر النيل وهو فعلا معطاء مادمت راغبا في صداقته واحترام قوانينه...".

المشهد رائع على المدى، مع رفرفة طيور الدباس، وطير البقر، والبجع، أما على الجزيرة فتلامس الطبيعة البكر الساحرة والتربة الخصبة، وتلقائية أبناء توتي وعفويتهم وعشقهم للنيل الذي تلمع عيونهم بحبه ويتعاملون معه كصديق يضمهم، وتجد الصغار يسبحون في شاطئهم الصغير حتى أذان المغرب حتى لا يشعروا بالحر.

كوبري توتي أسهم في سهولة التنقل لأهالي توتي، كما قال صالح (درس في جامعة الخرطوم) مشيرا إلى أن كل الأهالي كانوا يستخدمون الفلوكة في الانتقال إلى أشغالهم، ولكن الآن يستخدمون الكوبري حيث انفتحت توتي (المسماة درة النيل، وتبلغ مساحتها أكثر من 900 فدان، ويقطنها نحو 20.000 نسمة) على العالم الخارجي.

وصيغت ملحمة أهل توتي في أغنية حماسية شهيرة يغنيها الفنان حمد الريح تقول «عجبوني أولاد الأهالي، عجبوني وسروا بالي، طول الليل واقفين سواري، ترسوا البحر بالطواري، ما شالونا باللواري عجبوني الليل جوا ترسوا البحر وصددوا».

ويحترف سكان توتي الزراعة ومن أهم المحاصيل الليمون والبرتقال والمانجو، وحول تسميتها نجد أن المراجع اختلفت لكن المؤرخ البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم يشير في كتابه «تاريخ الخرطوم» إلى أن اسم توتي مصدره كلمة «تؤتي أكلها» باعتبار أن المنطقة زراعية ومشهورة بإنتاجها للخضروات والفواكة، وتبقى توتي صامدة وعفية إلى اليوم.

وتسلم وفد جزيرة توتي الرسمي والشعبي بالقاهرة في شهر نوفمر العام الماضي جائزة الأمم المتحدة لأفضل 8 مناطق حول العالم في التكافل الاجتماعي ودرء الكوارث.

وذكر منسق برنامج الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث بالمنطقة العربية بشرى حامد أحمد " إن البعد الثقافي الذي تبناه أهل الجزيرة في التعامل مع الكوارث ومنها الفيضان ساعد ولعب دورا كبيرا في بقاء الجزيرة ومواطنيها على مر العصور في مأمن من هذه المخاطر..مؤكدا أن الاختيار يعد إنجازا عظيما وفتحا بيئيا يرفع اسم السودان عاليا بين الدول في هذا المجال.

وأفاد بجاهزية السودان لإعداد نماذج وتجارب أخرى في مجال الحد من مخاطر الكوارث باستخدام الوسائل التقليدية والثقافات المحلية.

ولتوثيق الحياة في الجزيرة «المعزولة» قبل أن يغير الكوبري مناحي الحياة فيها، تم إصدار «كتاب توتي المصور» والذي أسهمت في إصداره عدة جهات هي: الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة (سوداك)، سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالخرطوم، وزارة الثقافة والشباب والرياضة ومنتدى توتي الثقافي.

ويعد الكتاب مرجعا لتوثيق الحياة التقليدية في الجزيرة من خلال الصور التي قام بتصويرها مبدعون سودانيون وأمريكيون وانتهى العمل فيه بعد أكثر من عام من بداية الفكرة.

ويعكس الكتاب الطبيعة والمعالم الرئيسية للجزيرة، واحتوى على 120 صفحة تضم صورا ملونة مقسمة على ثمانية فصول تشتمل على صور توضح النبض الاقتصادي، المعمار، ثمار الأرض، الناس، توتي في فترة التحول، الحياة اليومية والشعائر الدينية، وتمت طباعة الكتاب بالسودان، بثلاث لغات هي: العربية، الإنجليزية والفرنسية.

وتم إيداع عدد من النسخ في كل من دار الوثائق القومية، مكتبة الكونجرس، جامعات السودان المختلفة، مدارس جزيرة توتي، وزارة السياحة والحياة البرية بولاية الخرطوم، المؤسسات الحكومية والثقافية بالاضافة للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) قسم الفلكلور والمعارف التقليدية.

وفي ندوة للملكية الفكرية والتنمية المستدامة بعنوان (توثيق وتسجيل المعارف التقليدية وأشكال التعبير الثقافي غير المادي) عقدت بمسقط – سلطنة عمان في العام 2011 قدمت الأستاذة فوزية يوسف المدير التنفيذي للجمعية ورقة بعنوان (الشراكة الحتمية لتوثيق التعابير الثقافية: نموذج كتاب توتي المصور) أوضحت فيها أن الهدف من إصدار كتاب توتي التقليدي المصور هو استكشاف، وتوثيق الحياة التقليدية، واليومية في توتي فضلا عن أرشفة مشاهد، ونقاط مرجعية هي رمز لتجربة الجزيرة.

وأشارت الورقة إلى أن الدرس المستفاد هو التأكيد على أن التغيير مهمة جماعية، وحان الوقت الحقيقي لتعهد الجميع، ورعايتهم لهذه المسؤولية الجسيمة، كما أن الكتاب مثل الشراكة الحقيقية بين منظمات المجتمع المدني والحكومات، موضحة أن الكتاب يؤكد أن التعاون الثقافي الصادق عبر الأعمال الفنية المبدعة يمثل الجسر، والأمل في تعزيز التعاون الثنائي الشامل بين الشعوب.

وامتد المشروع التوثيقي لجزيرة توتي ليشمل الجانب التشكيلي المتعلق بتوثيق المعالم الأصيلة في الجزيرة ذات الخصوصية الاجتماعية المميزة، فآثر نفر كريم من أبناء الجزيرة وعلى رأسهم الدكتور عمر الصديق على توثيق ملامحها القديمة قبل أن تندثر.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً