كثيرا ممن ابتلاهم الله بإعاقه ما يعيشون ويموتون دون أن يسمع صراخهم، فهم محبوسين داخل ألم عزلهم عن العالم، فى ظل عدم قدرة المريض فى بعض الأحيان التعبير عن ألمه ووجعه ليكتفى ببضع نظرات تمزق قلب من يراه وتدميه من الحسرة، فكل ما ستستطيع سماعه هى أنات خافتة لأنه لا يقوى على النطق.
"أهل مصر" توصلت إلى حالة إنسانية تستحق وقوف الجميع بجوارها، ففى أحد مناطق المحلة الكبرى وتحديدا فى أحد "أزقة" ميدان طلعت حرب، يسكن محمد جودة، داخل شقة سكنية بمنزل قديم لا تتجاوز مساحتها بضع أمتار حالها كحال الشارع القابعة فيه، ورغم بساطتها إلا أنها نظيفة جدا، تتكون من غرفة وصالة، استقبلتنا الحاجة ليلى المتولى، والده محمد، وفتحت باب الغرفة، لتكشف عن سرير وضعت عليه "كومه من العظام" فى شكل بشرى، وهى فى صمت قبل أن تقطعه مرددة عبارة يملأها الرضا: "دا ابنى الصغير هديه من ربنا مش عارفة اشكره ازاى عليها".
وقالت: "بعد وفاة زوجى من سنة بدأت معاناتى أنا وابنى قعدت 34 سنة اللى هى عمر ابنى مشلتش هم علاج ولا مصاريف لأن زوجى كان متكفل بكل حاجة، ومملش من المصاريف على علاجه، لكن بعد وفاته معاشه اتوقف وبقيت أنا ومحمد من غير دخل ثابت وابنى الكبير كان محامى وبعد وفاة ابوه ساب المحاماه واشتغل سواق فى شركة عشان يصرف على مراته وعياله الثلاثة، لكن عمل حادثة وأصيب فى عموده الفقرى أثرت على رجله وطلع بإعاقة هو التاني".
وأضاف طارق جوده، شقيق محمد: "احنا مش عايزين غير حقنا.. أمى ليها نصيب فى معاش أبويا ومحمد له نصيب لإعاقته، لكن الإجراءات والروتين قاتلة، واحنا بنحاول ننهى إجراءات المعاش قابلتنا مشاكل منها رفع قضيه بالوصاية وطلبوا منا ندفع 1800 جنيه رسوم والقاضى ما اعترفش بشهادة مستشفى المحلة العام بأن نسبة عجز محمد 100%، وإنه يعانى من ضمور بالمخ وبالأطراف العلوية والسفلية، ونزيف من قرحة المعدة، وكهرباء وتشنجات عصبية وتيبس بكامل الجسد، وطالب بعرضه على كمسيون طبى بطنطا.. فكرة نقل محمد لطنطا، بمثابه عذاب له وللكل، واتأجلت القضية لشهر 12 عشان يفضل من غير معاش من وفاة أبوه لحد آخر السنة".
وتناولت الحاجه ليلى، أطراف الحديث قائلة: "أنا كبيرة فى السن وصحتى ضاعت فى ابنى وهفضل تحت رجله لحد لما أموت.. حتى التأمين الصحى لمحمد متوقف على معاش أبوه"، ثم رفعت طرف ثوبها لتظهر آثار جرح كبير بمحيط الركبة، وقالت إنها أجريت جراحة تغير مفصل للركبة وتحاملت على نفسها من أجل ابنها، الذي تتخطى مصاريف علاجه شهريا ثلاثة آلاف جنيه، في حين أن الأدوية البديلة تزيد من حدة مشكلات المخ، مطالبة بحقه فقط في معاش والده.
أما "محمد"، الذى لم تغب البسمة عن وجهه إلا لحظات كان يتشنج فيها وينتفض جسده كمن يصعق بتيار كهربى، لم يقل سوى كلمتين لخصت معاناة شاب لا يقوى على الحركة أو النطق دون أن يصرع أو يتشنج "علاج ومعاش".