«دع عنك لومي فإن اللوم إغراء..وداوني بالتي كانت هي الداء»، تلك كانت نظرية «أبو نواس» أحد عظماء الشعر في تاريخ العرب، ورغم أن الأمر كان موجهًا للخمر في الأساس وأنه يريد الشفاء منها بشربها، إلا أن باحثي علم النفس عرفوا أن تلك كانت بداية نظرية علمية، تمامًا كمقولة محمود عبد العزيز في فيلمه الأثير «الكيف» حين قال «لازم ندوش الدوشة علشان متدوشناش»، وباختلاف الأساليب والأهداف يبقى أن هناك من يؤمن أن أفضل طريق للوقاية من شيء هو الهجوم.
بدأت القصة في عام 1974، حين عمل المحلل النفسي «هيربرت فرويد نبيرجر»، وهو أمريكي من أصل ألماني، كان يعيش في نيويورك، في مكتب مساعدة مدمني المخدرات، وقتها لاحظ أن العاملين يبدأون عملهم بحماس وإخلاص لا مثيل له، وسرعان ما ينتشر مرض اللامبالاة والاستهتار وفي أحيان أخرى إلى السخرية.
لم يمرر «نبيرجر» ما شاهده، بل أخضعه للفحص النفسي، وتوصل إلى أن العمال الذين يعانون من لامبالاة وسخرية، هم في الحقيقة مرضى نفسيون ويعانون من ألم نفسي أطلق عليه وقتها «الاحتراق النفسي»، وأكد أن أكثر المصابين بهذا المرض هم الأطباء والمعلمون والعاملون في خدمة المسنين والمُدمنين والمرضى، أي المهن التي تتطلب المثالية، والجهد النفسي والبدني الكبيرين.
لم ينتهي بحث العالم الأمريكي «نبيرجر» عند هذا الحدث، بل أكد أيضًا أن الاحتراق النفسي لا يصيب إلى أصحاب الحماس الزائد الذين يفرطون في تحميل أنفسهم فوق طاقتها من أمور الدراسة أو الوظيفة أو المهنة، مع تجاهل تام لطبيعتهم البشرية وتقلبها بين النشاط والفتور، والحماس والخمول، مع حاجتها دومًا للاسترخاء بين الفينة والأخرى.
لكن ما توصل إليه العالم الأمريكي لم يكن كل شيء، كان مجرد بداية لبحث خلال العقدين الماضيين حتى ظهر المفهوم الرسمي لما أسماه «نيبرجر» بالاحتراق النفسي، لينضم إلى قائمة الأمراض النفسية مرض «جلد الذات»، وهو تطوير لنظرية العالم الأمريكي لكنه بات الأكثر اعتمادًا لدى كل خبراء علم النفس في العالم.
وكما توضح منظومة الصحة العالمية، فإن جلد الذات هو مرض ينقسم إلى شقين، أولهما معنوي ويعني المبالغة في انتقاد الشخص لذاته ولومه لنفسه وتأنيبه لها، لارتكابه أخطاء هي في الحقيقة صغيرة لكن عقل المريض يتخيل أنها كبيرة، أما النوع الثاني الضرر المادي ويعني أن يؤذي الإنسان جسده بأي طريقة ما.
وينتج إحساس جلد الذات من الإحباط والفشل، وفي أحيانًا كثيرة من رغبات الشباب التي لا يمكن تحقيقها وبالتالي يتم إصابته بالإحباط بالفشل، لتبدأ فكرة جلد الذات وهو شعور سلبي ينتج عن رغبة الشخص اللاشعورية بالتغلب على الفشل بالهروب منه بدلاً من مواجهته لعجزه عن إدراك مواطن ضعفه وقوته، وعدم معرفته بمواطن ضعف وقوة التحديات التى يواجهها بل وأحيانًا ما يعطيها حجم وقوة أكبر مما هى عليه بالفعل.
وكما توضح منظمة الصحة العالمية في تعريفها للمرض، فإن هذا المرض يُصاب به في الغالب أصحاب الطموحات الكبيرة الذين يريدون النجاح في أقصر وقت دون أي تخطيط، وبالتالي حين يفشل ينقلب إلى النقيض ويُصاب بإحباط حاد يؤدي إلى تعذيب الذات، أما آثاره النفسية تظهر على الفرد والمجتمع فى عدة صور مثل عدم القدرة على مواجهة الأزمات، وضعف التواصل الاجتماعى، وفقدان الأمل فى المستقبل، والشعور الدائم بالأرق والقلق والتوتر، وعدم القدرة على التركيز، والكوابيس والشعور بالكآبة.
20 ألف مريض !
«جلد الذات» هو بالضبط ما دفع 100 ألف شاب منهم 20 ألف مصري للإعجاب بصفحة حملت عنوان «كاتينج» كانت مهمتها دعوة الشباب الذين يعانون من آلام نفسية لجُرح أنفسهم للتخلص من الألم النفسي، وقد استطاعت الأجهزة الأمنية كما أوضحت في بيان رسمي من ضبط صاحب تلك الصفحة الذي يُدعى «عز . ع .ع» لاتخاذ الإجراءات القانونية ضده، بعد أن تبين أنه يسكن في محافظة البحيرة وإغلاق الصفحة.
عالم الـ«كاتينج» باختصار لم يكن حصريًا في مصر، بل له العديد من الصفحات في كل دول العالم وتشير بعض الدراسات أن ظهوره كان في الولايات المتحدة الأمريكية ويدلل على ذلك سينما «هوليود» التي نشرت مقاطع بهذا المعني في الكثير من أفلامها ما زاد من انتشاره، وتقوم فلسفته على استقطاب الشباب المُحبط أو ممن يعانون من أي ألم نفسي، وينصحوهم من خلال منشورات تلك الصفحات بجرح أنفسهم، معتمدين على نظرية أن الألم العضوي سُينسي المريض الألم النفسي وبما أن الألم العضوي سينتهي في مدة أقصر من الألم النفسي فإن تلك التجربة تكون ناجحة.
تلك النظرية هي ما استقطبت «رنا..م» البالغة من العمر 23 عامًا، تقول هي عن تجربتها في حديثها لـ«أهل مصر» أن سبب لجوئها لتجريب هذا النوع كان قصة عاطفية ومشروع زواج لم يكتمل، ما أدخلها في حالة عصبية أشبه بالانهيار، وحين لجأت إلى صديقة لها أخبرتا بالكاتينج خاصة أن الكثير من الشباب جربوا هذا النوع وشعروا براحة نفسية بعدها.
وتضيف «رنا» أنها لم تلقى أي عناء في البحث عن تلك الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» بل وبعض المواقع المخصصة لذلك، وعليه هناك الكثير من المنشورات التي توضح كيف يمكن أن تجرح نفسك دون أن يؤدي ذلك للوفاة، أي البعد عن الشرايين القاتلة، بالإضافة إلى مقاطع فيديو لشباب أقدموا على نفس التجربة وتحدثوا عن راحتهم بعد ذلك، وتلك كلها عوامل تحفيزية لإقدام الشاب على جرح جسده.
وتكمل: بالفعل جربت ذلك من خلال جرح في ذراعي بواسطة «كتر»، ونزفت دماء كثيرة ونسيت وقتها أي ألم نفسي، وشعور الراحة انتابني لكني عرفت بعد ذلك أن هذا الشعور مؤقت، فخلال أيام عاودنى مرة أخرى الألم النفسي ولم استفد شيئًا، لكنني ايضًا لم أخسر الكثير فهي تجربة وخضتها .
الأمر ذاته أقبل عليه «على محمود» الذي تخرج من كلية التجارة العام الماضي، وكان دافعه لعالم الـ«الكاتينج»، يضيف إنه لم يجد فرصة عمل ويقضي يومه كله في البيت وبالتالي ليس هناك أي مشكلة في تجربة أي شيء جديد، خاصة أن عدد من أصدقائه أقدموا على ذلك.
ويتابع «محمود»: قرأت المنشورات والمحذورات التي تتمثل في عدم جرح الجسد في أماكن خطرة كالرقبة وشرايين اليد وأسفل البطن، بجانب التأكد من القدرة على الجرح من أول مرة حتى لا يكون هناك ألم مضاعف، بجانب القدرة على السيطرة على النفس في حالة الألم الكبير، وبالفعل فعلت ذلك وما هي إلا ساعات حتى انتهى الأمر وعاودت حياتي مرة أخرى، لكن ما شعرت به حقيقة كان اللذة والمتعة وأنا أجرح نفسي، كان الأمر أشبه بكوني مصاص دماء ولذلك خفت من نفسي وقررت أن لا أجربها مرة أخرى.
الحالات السابقة لم تكن إلا مثال على ما يقرب من 30 ألف شخص يتابع تلك الصفحات من داخل مصر، وكلهم معرضين لنفس التجربة ناهيك عن أن أقوال الشباب التي أقدمت على هذا الفعل تشير إلى أن «مملكة الكاتينج» منتشرة والأسباب كثيرة ما بين إحباط وبطالة وقصص حب فاشلة وشغف بتجربة كل شيء جديد، وبحسب تقديرات غير رسمية فإن عدد تلك الصفحات في العالم وصلت لعشرة آلاف صفحة يتابعها أكثر من 6 ملايين شخص.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن البعض أنشأ مراكز خصيصًا لهذا النوع، لتنتقل الدعوة من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع، وكشفت وزارة الداخلية العام الماضي أنها داهمت مركز في محافظة المنوفية يستقطب الشباب لجرح أنفسهم للتخلص من الآلام النفسية، وتم ضبط صاحبه وقتها وإحالته للنيابة للتحقيق معه.
هذا المركز كانت له «فيزيتا» تبلغ 35 جنيهًا، وبه طبيب للتدخل في حالات الإصابات الحرجة، أما عدد المترددين عليه فبلغ يوميًا 10 شباب، من المنوفية والمحافظات الأخرى القريبة منها، وبإغلاق هذا المركز لم يتم إنشاء مراكز أخرى.
كاتينج ديني
لا يتوقف الأمر على هذا النوع من الصفحات، فأصحاب الفكر المتطرف الديني كان لهم ايضًا «جلد ذات» خاص بهم من خلال بعض الصفحات والمواقع التي تنصح بتحقير الذات وضربها في بعض الأحيان وذلك في حالتين، الحالة الأولى ارتكاب معصية أو ذنب يستلزم وقتها تأنيب الجسد حتى لا يقترب من المعصية مرة أخرى، والحالة الثانية إذا شعرت النفس بالكبر والغرور، فعلاجها الوحيد هو «جلدها» كما يروّج أصحاب تلك النظرية التي تلقى قبولًا عند شريحة كبيرة من الشباب أيضًا.
كلمة التاريخ
لكن لأن لكل ظاهرة أصل، يرى الدكتور محمد عفيفي، رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة، أن ذلك الأمر ليس جديدًا، منذ عهد الفراعنة وتحديدًا حين ارتبط الحزن بجلد الذات، فقديمًا حين كانت تحدث حالة وفاة وهو أمر طبيعي وسنة كونية لا مناص منها، تكون طريقة حزن المصريين «اللطم» وتعفير الوجه في التراب وشق الملابس وهو أمر نهى عنه الإسلام حين جاء، لكنه أمر أثار الجدل ما علاقة الحزن بضرب جسدك، وفي الموروث الشعبي أصبح ذلك دليلًا على الحزن لا أكثر.
ويتابع «عفيفي» أنه مع ظهور بعض الفرق الإسلامية ووقوع حادثة «كربلاء» انتشر هذا النوع من «جلد الذات» في الكثير من الدول، خاصة حين أرادت بعض الطوائف الشيعية إحياء ذكرى كربلاء عن طريق الدم، وذلك بضرب أنفسهم وجرح جسدهم حتى ينزفوا، تعبيرًا منهم عن تقصيرهم في حق حفيد رسول الله، وحتى يغفر الله لهم ذنوبهم كما يعتقدون، وهذا التصرف ليس حكرًا على الدين الإسلامي فقط، بل موجود بشكل أو بآخر في كافة المعتقدات والأديان لأسباب مشابهة.
الخطاب الديني القديم كان ضمن الأسباب أيضًا، يوضح «عفيفي»، أن بعض شيوخ السلفية روجوا لتلك النظرية خلال العقدين الماضيين، خاصة حين تحدثوا عن الخوف من نار جهنم، وطالب بعض الشيوخ من محبيهم أن يلمسوا النار العادية بأيديهم حتى يستشعروا عظمة نار جهنم، وهذا في حد ذاته نوع من جلد الذات.
أبعاد نفسية
الخبير النفسي أحمد الباسوسي، يوضح في حديثه لـ«أهل مصر»، أن تلك المشكلة لها كثير من الأبعاد النفسية وقد رسختها الكثير من الثقافة المصرية مثل مشاهد الإقدام على الانتحار من أجل الحب، بل إن بعض المحبين يكتبون أساميهم بالدم فقط من أجل الدلالة على رابطة الحب بينهم، وكل ذلك فيه إيذاء للجسد وليس دليلًا على أي حب.
من الناحية النفسية يوضح «الباسوسي» أن المقُبلين على هذا النوع إما مرضى نفسيون يبحثون عن مخرج وبالتالي فإن جرح الجسد وسيلة فعالة بالنسبة إليهم، وإما نوع لديه شغف التجربة لا أكثر، والأخير ليس هناك أي خطر عليه لانه يتوقف بعد التجربة الأولى كما حدث تمامًا في ألعاب كـ«الحوت الأزرق» وقبلها لعبة «البوكيمون».
أما النوع الأول والمقصود به المرضى النفسيون، فهم يقتنعون أن مواجهة الألم النفسي بالألم العضوي وسيلة ناجحة، ويزيد ذلك الشعور تجارب البعض، لكن ما يحدث أن الإنسان حين ينزف دمًا تتوقف كل مشاعره السيئة مقابل إحساس الألم وبالتالي يظن إنه شُفي تمامًا، لكن ما إن يهدأ الألم العضوي يعود الألم النفسي مرة أخرى بقوة، ولذلك فإن الأفضل لهؤلاء عدم علاج أنفسهم بطريقة يتخيلونها صحيح ويجب لجوئهم لأطباء نفسيين حتى يتم العلاج، خاصة أن هذا النوع هو خطوة ما قبل الإنتحار مباشرة.
وأوضح أنه أي مريض نفسي يجب على المحيطين بالمريض سواء الأهل أو الأصدقاء المقربين احتواءه حتى يؤتى نتيجة، ولابد للشخص نفسه أن يكون لديه الاستعداد والرغبة فى الشفاء، فكل إنسان عليه أن يتحلى بالصدق مع نفسه، ومحاسبة النفس ونقدها بدلاً من جلدها حتى يتعرف على مواطن التقصير والخطأ فيتمكن من معالجتها، فجلد الذات هو الاستمرار فى تعذيبها وإيذائها دون معالجة الأسباب، التحلى بالصبر فى علاج أى مشكلة، التعلم من الأخطاء، تطوير القدرات ومحاولة إيجاد البدائل، التوازن والحفاظ على الذات بإكرامها وعدم إهانتها أو جلدها.
وأكد أن هناك شخص يخطئ ولا يبالى، وآخر يخشى من الخطأ وإن أخطأ يجلد نفسه ويؤنبها، التوازن هو أفضل شيء وعلينا محاولة تجنب الخطأ وإذا وقع لا نلوم أنفسنا ونؤنبها بشكل مبالغ فيه بل نحاول أن نتعلم منه ولا نكرره، يكفى أن نعلم أن كل من حقق مكانة عالية لم تخلو حياته من الأخطاء المهم أن تكون أخطاء يمكن إصلاحها.
وأكمل: علينا أن ندرب أنفسنا على نقد الذات وليس جلدها، فالنقد شعور إيجابى يتيح لنا اكتشاف مواطن الضعف والقوة بموضوعية، فنجيد قراءة أنفسنا ولا نخشى من مواجهة التحديات، نستفيد من أخطائنا، نتمكن من الوصول لأهدافنا من خلال التخطيط الجيد والنظرة الموضوعية، الشعور الإيجابى لنقد الذات ينبع من الرغبة الحقيقية قى النجاح والثقة بقدرتنا على الوصول لأهدافنا.
عبودية الله
من الناحية الدينية كان هذا النوع محل اهتمام قرآني أيضًا، يشرح الداعية الإسلامي خالد الجندي لـ«أهل مصر»، أن القرآن خبيرًا بالنفس البشرية، فهو كلام الله، لذلك في الكثير من المواضع دعى إلى التيسير، بل إن أساس عبودية الله أن يعلم الإنسان أن الدين يسر وليس عُسر وهو طريقة للحياة وليس مجرد تكليفات سماوية يجب اتباعها.
وأشار «الجندي» إلى أن الله نزّل الكثير من الآيات التي تُحرم إيذاء الجسد الإنساني، كما حذر من القنوط من رحمة الله، وعدم التفاؤل والأمثلة كثيرة بداية من قوله تعالي «فإني قريب» ثم تأكيده إنه عند حسن الظن، والأحاديث النبوية التي تُجمع أن رحمة الله سابقة لكل شيء وذلك حتى لا يتجه الإنسان للكفر.
كما أوضح أن حالات الإحباط كانت تنتاب الكثير من الأنبياء بداية من سيدنا نوح وحتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي واساه الله بقوله «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» وذلك بعدما يأس الرسول من إيمان البعض، وكل ذلك يشير إلى أن الله نهى عن ذلك في كل موضع.
الراحل إبراهيم الفقي، وضع أيضًا حل لتلك المشكلة في كتابه «طريق النجاح»، من خلال وضع نظرية عُرفت باسم الامكانيات والطموح، وأكد فيها أنه يجب على كل شخص يضع خطة لنجاحه أن يسأل نفسه أولًا هل يملك الإمكانيات التي توصله إلى الهدف الذي يريد الوصول إليه، إذ أنه لا يمكن أن يصل شخص لحلم الطيران وهو لا يعرف القيادة.
وحذر «الفقي» من وضع الأحلام المستحيلة التنفيذ، إذ أن تأثيرها السلبي يفوق أي أحساس إحباط عادي، ويمكن أن يلجأ الكثيرون إلى الانتحار.
نقلا عن العدد الورقي.