في 20 رمضان 8 هجرية دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحًا، وسبب الفتح هو أن قبيلة قريش انتهكت الهدنة التي كانت بينها وبين المسلمين، وذلك بإعانتها لحلفائها من بني بكر في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ المسلمين، فنقضت بذلك عهدَها مع المسلمين الذي سمّي بصلح الحديبية.
وردا على ذلك، جهز الرسول جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة، وتحرك الجيش حتى وصل مكة، فدخلها سلما بدون قتال، إلا ما كان من جهة القائد المسلم خالد بن الوليد، وقام الرسول بتكسير الأصنام الموجودة حول الكعبة، وأسلم أغلب أهل مكة، وعفا عن البعض وقال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ولكن في طريق النبي إلى المدينة تم إفشاء بعض الأسرار التي تتعلق بالجيش للعدو، وفي هذا روى الإمام أحمد والخمسة وأبو يعلى والحاكم، والضياء وابن مردويه والواقدى: أن رسول الله لما أجمع السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله من الأمر فى المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلًا (أتاها مالًا)، على أن تبلغه أهل مكة، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمرى على الطريق، فإن عليه حرسًا.
وذكر السهيلى وابن عقبة وصاحب السيرة الشامية: أنه كان فى كتاب حاطب للقريشيين: "إن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله تعالى عليكم، فإنه منجزُ له ما وعده فيكم، فإن الله تعالى ناصره ووليه، وقد أحببت، أن يكون لى يد بكتابى إليكم".
وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث الإمام عليًّا والزبير بن العوام والمقداد بن عمرو، وقيل: أبا مرثد بدل المقداد رضي الله عنهم جميعا، فقال: (أدرك امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له فى أمرهم، انطلقوا حتى تأتوا روضة خَاخ) وهو مكان على قرب اثنى عشر ميلًا من المدينة.
فلما أدركها الإمام علىٌّ قال لها: إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا، والتمس الكتاب فى رحلها، فلم يجد شيئًا، فقال: لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنَّك، فلما رأت الجِدَّ، قالت: أعرضوا، فحلَّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به رسول الله، فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله.
دعا النبي حاطبًا، فقال: "يا حاطب ما حملك على هذا؟".
قال حاطب: "يا رسول الله، إنى والله لمؤمن بالله ورسوله، وما غيَّرتُ، ولا بدَّلتُ، ولكنى كنت امْرءًا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.. فقال رسول الله: (إنه قد صدقكم).
الواقعة استقبلها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما يستقبلها الناس في عصره وعصرنا وهي أنها "خيانة عظمى"، وليس لها إلا عقوبة واحدة وهي الإعدام، فقال لحاطب: قاتلك الله!! ترى رسول الله يأخذ بالأنقاب، أى: الطرق، وتكتب إلى قريش تحذرهم؟ دعنى يا رسول الله أضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق.
فقال رسول الله: "ما يدريك يا عمر أن الله اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فاغرورقت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، حين سمعه يقول فى أهل بدر ما قال؛ لأن عمر من أهل بدر أيضًا.
وأنزل الله تعالى قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ* إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (الممتحنة: 1 - 3)، كما جاء في السيرة الحلبية والسيرة الشامية وسيرة ابن هشام.