وسط محافظة القاهرة، وبالتحديد في حي باب الشعرية، تقع مستشفى سيد جلال، وهي إحدى المستشفيات التابعة لجامعة الأزهر، وأنشأها شيخ البرلمانين سيد جلال جيلاني، عام 1945 م، لتكون ملاذًا يلجأ إليه الفقراء والكادحين من أبناء هذا الوطن كلما داهمتهم الآلام المرض.
اقرأ أيضاً... "مستشفياتك يا مصر".. حملة "أهل مصر" لكشف فساد المستشفيات
كان هذا المستشفى يتمتع بسمعة طيبة، ويُعرف بجاهزية ورقي الخدمة الطبية التي يقدمها؛ إلا أنه وبمرور السنوات تبدل الحال، وأصبح سببًا في تضاعف معاناة المرضى، بسبب الإهمال الذي عصف بجنباته في مختلف المناحي، ومن أجل تسليط الضوء على هذه الجوانب السيئة تواصل "أهل مصر" حملة "مستشفياتك يا مصر"، والتي بدأناها من داخل "الدمرداش" بالعباسية، ونواصل في هذه الحلقة كشف جوانب الإهمال داخل مستشفى سيد جلال.
أكوام من القمامة بدأت رحلة محرر "أهل مصر"، للإطلاع على ما يحدث داخل مستشفى سيد جلال، حين توجه إلى البوابة الرئيسية، فمنعه الأمن من الدخول دون إبداء أسباب، ووجهه إلى الذهاب لبوابة رقم "3"، وبالفعل امتثل المحرر للتوجيهات، ولفت انتباهنا منذ أول وهلة تراكم أكوام القمامة بين جنبات المدخل الرئيسي للمستشفى، وبدا واضحًا أن هذه الأكوام متراكمة منذ أيام عديدة مضت، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالًا هامًا: أين مسئولي النظافة من هذا الوضع المزري؟
شاهد.. تراكم القمامة داخل مستشفي سيد جلال
على مقربة من أكوام القمامة المتراكمة، كان بإنتظارنا كارثة أشد خطرًا على صحة المرضى من سابقتها؛ وجدنا شبكات الصرف الصحي المتواجدة بالمستشفى تسرب للحد الذي أغرقت معه المياه المنطقة المحيطة بغرف الصرف، التي كانت تبدو وكأنها لم تُجرى لها أي عملية صيانة منذ سنوات عديدة مضت.
شاهد.. مياه الصرف تغرق مستشفى سيد جلال
في الفناء الخارجي للمستشفى وعلى مقربة من قسم خاص بأمراض النساء، يخطف الأنظار "أنبوبين ضخمين" يكسوهما اللون الأبيض، وضع فوقهما ملصق كتب عليه: "مواد سريعة الاشتعال"، علمنا أن هذين الأنبوبين يجب أن تتوفر لهما تقنيات حديثة خاصة بالحفاظ على درجات التبريد، وذلك لتفادي انفجارهما الذي إن حدث سيدمر مبنى المستشفى وما حوله من مباني، ولكن المثير أن مسئولي مستشفى سيد جلال، توصلوا إلى اختراع لم يسبقهم إليه أحد للحفاظ على حياة المرضى والآلاف من سكان حي باب الشعرية.
وضع مسئولي مستشفى سيد جلال، أعلى هذين الأنبوبين، "ماسورة" مثقوبة تضخ مياه بشكل مستمر، تكون بديلًا للتقنيات الحديثة الخاصة بالحفاظ على درجات التبريد، ولا نعرف أي نظرية علمية يستند عليها من يديرون هذه المستشفى حتى يخاطروا بحياة الآلاف بهذا الطريقة التي لم يعرفها العلم في أي زمان ومكان.
شاهد.. "مواد سريعة الاشتعال" بمستشفى سيد جلال تهدد حياة آلاف المواطنين
داخل المستشفى كان مستوى النظافة أكثر سوءًا؛ فأعقاب السجائر مترامية في كل مكان، وبواقي الأدوية، والعلب الفارغة، وحتى "حفاضات الأطفال" منتشرة في كل مكان بالأرض.
شاهد.. " حفاضات الأطفال" مترامية على سلالم مستشفى سيد جلال
وكان الشيء الأكثر غرابة هو كثرة أعداد القطط المتواجدة بالمستشفى، وكأن هذه الحيوانات أقامت لها مستعمرة، والتي لا يعبأ المسئولين عن "سيد جلال" بصرفها من المكان، خوفًا من أن تنقل العدوى من مريض إلى آخر.
شاهد.. مستعمرة لـ"القطط" داخل مستشفى سيد جلال
يعاني المرضى كبار السن، وخاصة "القعداء"، من مأساة أشد إيلامًا؛ فقد رصدنا قدوم سيدة مسنة، تستند على نجلها، وتعاني صعوبة شديدة في السير، وقد أخبرنا الشاب أنه حاول لوقت طويل الحصول على مقعد متحرك يُدخل به والدته إلى المستشفى لكنه فشل، ولم يجد سوى إقناعها بأن تتحمل معاناة المشي ببطئ وهي تستند عليه حتى يتمكن من عرضها على الأطباء بالداخل.
وبعد خطوات قليلة تعالت صرخات هذه السيدة معبرة عن عدم قدرتها على مواصلة السير، فتطوعت إحدى السيدات وشاركت الابن في مساعدتها للدخول إلى المستشفى، ورغم نشوب مشادات كلامية بين المواطنين الذين طالبوا بضرورة إحضار مقعد لهذه المسنة، وبين طاقم التمريض، إلا أن أحدًا لم يستجيب سوى بعد أن تمكنت المريضة من الوصول إلى الباحة الداخلية للمستشفى، وبالفعل أحضروا مقعدًا متحركًا بعد أن كانوا ينفون وجود أية مقاعد متحركة.
شاهد.. معاناة سيدة مسنة داخل مستشفى سيد جلال
تركنا السيدة المسنة، وذهبنا بسرعة إلى الغرفة المخصصة لمرضى العظام بقسم الطوارئ، حيث كان صوت الصرخات مسموعًا للجميع، كان مصدر الصوت رجل مصاب بكسر في قدمه، عرفنا فيما بعد أنه "عامل بسيط"، كان يرافقه والدته، وصديق له، وحاولوا الاستنجاد بالأطباء لتخفيف وطأة الألم من على كاهل هذا العامل البسيط دون جدوى؛ فالدخول إلى غرفة الفحص كان أمرًا صعبُا بسبب التزاحم والعشوائية، حيث لم يكن هناك أحد من طاقم التمريض ينظم عملية الدخول، إضافة إلى عدم وجود مقاعد يجلس عليها المرضى المتعبين.
كان الأكثر غرابة مما سبق هو دخول أكثر من 3 مرضى دفعة واحدة إلى الغرفة المخصصة لإجراء الكشف والفحوصات، ظننا لأول وهلة أنّ بالداخل أكثر من طبيب لذلك يدخل إليهم أكثر من مريض، ولكن المفاجأة كانت حين سألت المرضى ومرافقيهم الواقفين بالخارج من عليه الدور؟ ولماذا يدخل كل هذا العدد دفعة واحدة؟ وكانت الإجابة الصادمة: "ما فيش دور، عايز تتدخل ادخل، بس استني واحد من الشوية اللي دخلوا يطلع"، ولذلك قررت أن اتزاحم مع المتزاحمين، واكتشفت بالداخل أن الغرفة ليس بها سوى طبيب واحد، كان بدوره يجري فحوصات متعددة في نفس الوقت لكل المرضى.
شاهد.. شاب مصاب بكسر في قدمه يستنجدلإنقاذه.. وأطباء "سيد جلال" لا يستجيبون
كان بداخل الغرفة المخصصة لفحص مرضى العظام، طبيب واحد يجري فحوصات على3 مرضي، بجوار كل مريضعدد من المرافقين؛ الحالة الأولى كانت لسيدة مسنة، اضطرت إلى الجلوس على إحدى المقاعد نظرًا لعدم وجود أسرة كافية بالغرفة، والثانية كانت لطفل صغير تهدهده والدته أملًا في أن تخفف الآلام مرضه، والثالثة لشاب مصاب إصابة عمل، وتجلس بجواره أيضًا والدته، ولأن هذا الشاب كان مصابًا بكسر في قدمه، فقد أفسح له الجميع الطريق للإستلقاء على السرير الوحيد المتواجد بالغرفة.
طلب الطبيب، من السيدة المسنة الجالسة على المقعد، أن تعري ساقها حتى يتمكن من فحصها تحديد مصدر الألم، فرفضت وعلا صوتها قائلةَ: "اكشف رجلي إزاي والأوضة مليانة رجالة"، وهنا تدخلت أم الشاب المصاب بكسر في قدمه وطلبت من الجميع الخروج لدقيقة، وبالفعل خرجنا، وعدنا بعد دقيقتين أو ثلاث دقائق على الأكثر، كان الطبيب أنتهي من الفحص، وقفت بجوار إحدى جدران الغرفة أشاهد فقط ماذا يحدث، وأنتظرت أن يسألني أحد ماذا تفعل؟ وهل أنت مصاب أم مرافق؟ ولكن شيء من هذا لم يحدث، وعقب برهة من الزمن اقتربت من الطبيب وتعللت بأني أجريت جراحة في الرباط الصليبي، والتوت قدمي وأنا في العمل، وأشعر بالآلام مبرحة، وتوقعت أن يقوم بفحصي؛ إلا أنه قال لي: "تعالى بكره الساعة 9 علشان الاستشاري يكون موجود، ويشوف إذا كنت هتعمل أشعة مقطعية ولا رنين".
تدافع وتزاحمتركنا قسم الطوارئ بكل ما فيه، وذهبنا إلى المصاعد الكهربائية لنكمل جولتنا داخل باقي أقسام المستشفى؛ كان هناك 4 مصاعد، يعمل منهم 2 فقط،من المفترض أنهما يخدمان 11 طابقًا هم عدد طوابق المستشفى، وهو ما تسبب في تدافع وتزاحم المرضى ومرافقيهم للظفر بأولوية الصعود.
شاهد.. تدافع المرضى أمام المصاعد الكهربائية بمستشفي سيد جلال
أثناء التجول بين طوابق مستشفي سيد جلال، راعنا ذلك المشهد الذي رأيناه أمام قسم العناية المركزة المخصص للحالات الحرجة؛ فقد وجدنا مرافقي المرضى يفترشون الأرض، وبدا أنهم اعتادوا على هذا الفعل، ولذلك اصطحبوا معهم مستلزمات الجلوس من مفارش، وأكياس بها مختلف أنواع الأطعمة.
شاهد .. مرافقى المرضى يفترشون الأرض أمام العناية المركزة بـ"سيد جلال"
الحالة السيئة كانت في جميع أقسام وطوابق مستشفى سيد جلال؛ فمستوى النظافة ليس مترديًا فحسب، بل هو غير متواجد من الأساس، والرعاية الطبية يخيم عليها الإهمال ويسودها عدم إعتناء بالمرضى الفقراء والكادحين من أبناء هذا الشعب، ناهيك عن أن قسم الأشعة والتحاليل والصيدلية الخاصة بصرف الأدوية ليس لهم دور، وغير ذلك من المأسي التي تحتاج إلى وقفة حاسمة من الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة، والدكتور محمد المحرصاوي، رئيس جامعة الأزهر، و"أهل مصر" تُهدي هذا التحقيق الميداني إلى جميع المسئولين من أجل التحرك لإنقاذ حياة عشرات الآلاف من المرضى البسطاء الذين اضطرتهم الحاجة وضيق ذات اليد إلى طرق أبواب المستشفيات الحكومية .
شاهد.. مرافقي المرضى يفترشون الأرض أمام العناية المركزة بـ"سيد جلال"