تخيل للحظات أن مضجعك الذي تلقي عليه جسدك عبارة عن "قبر" وري تحت ترابه إنسان مثلك لكنه فارق الحياة؛ هل تستطيع أن تغمض جفنيك؟ وماذا إن كان هذا القبر هو غرفة نومك والمكان الذي تتناول فيه طعامك وغير ذلك من متطلبات الحياة؟ والأهم ماذا لو قيل لك أولًا -ثم تأكدت ثانيًا- أن أرواحًا شريرة تسكن المكان وتنتظر حلول الظلام لتخرج من قمقمها وتمارس ضدك وصلات من الرعب؟ كيف ستكون حياتك إن فُرض عليك هذا الوضع المأساوي؟
الأمر ليس سيناريو لفيلم خيال علمي، بل هو حقيقة يُجسدها على أرض الواقع سكان المقابر المجاورة لمسجد علي زين العابدين بحي السيدة زينب، المعروفين بـ"سكان مقابر زين العابدين"، الذين يعيشون في منأى عن كل شيء، فلا هم بشر على قيد الحياة يتمتعون بتلك الحقوق التي يتمتع بها بنو جلدتهم، ولا هم أموات دفنوا بما حُملوه من مشكلات وهموم مع أولئك الأموات الذين شاركوهم العيش عنوة؛ ومن أجل انتشال هؤلاء البسطاء والكادحين من عثراتهم، ونقل صوتهم إلى مسئولي الحكومة، ومحافظة القاهرة، اختارت "أهل مصر" أن تبدأ حملة: "أهالينا الطيبين"، من هذه المنطقة.
اقرأ أيضًا.. "أهالينا الطيبين".. حملة "أهل مصر" لنقل صوت البسطاء من قلب العشوائيات
مساكن داخل القبورمنذ الوهلة الأولى لقدومك إلى مسجد علي زين العابدين بحي السيدة زينب، لن يخطر ببالك أن بجوار هذا المسجد عشرات من الأسر الذين اتخذوا من قبور الموتى سكنًا لهم، ولكي تصل إلى هؤلاء يحتاج الأمر إلى مغامرة غير مأمونة العواقب في الغالب، وليس السكان البسطاء هم السبب في المخاطر التي قد تواجهك عند الدلوف إلى هذه المنطقة، فجميعهم ينطبق عليهم مصطلح "أهالينا الطيبين" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ راقية، ولكن خوفهم من أن تكون تابعًا لـ"إدارة الحي" أو أي جهة حكومية، وجئت لتحصر عددهم ثم تعود مرة أخرى لتطردهم، وترمي بهم في الشارع هو منبع الخوف.
شاهد.. مناظر مأساوية لسكان مقابر علي زين العابدينيعيش سكان "مقابر زين العابدين"، حياة قاسية في كل الجوانب، وإن أردنا وصفًا دقيقًا نقول: إنهم يفتقدون في الأصل لكل مقومات الحياة، وجميعهم يختلفون في شيء واحد، وهو أنهم قادمين من شتى محافظات مصر، فقد جاءوا إلى القاهرة قبل سنوات جاوزت النصف قرن من الزمان، بعد أن ضاقت بهم الظروف المعيشية في محافظاتهم الأصلية، وظنوا أن اتساع مساحة العاصمة الجغرافية وكثافتها السكانية مقرون بسعة في الرزق.
ولكنهم اصطدموا بالواقع المؤلم؛ فلا مصدر رزق، ولا مكان يأوون إليه، ولذلك اختاروا أن يتخذوا من القبور مساكنًا يسترون بداخلها أجسادهم، وهذا هو الشيء الذي يشتركون فيه جميعًا؛ ففي أوقات الاضطرار لا يُفكر الإنسان إن كان جاره على قيد الحياة يبادله الأحاديث، أو ميتًا ربما ينقل إليه الرعب، المهم أن يجد مكانًا يواريه في ميتته الصغرى "النوم".
فتح المقابرعند حديثنا مع سكان "مقابر زين العابدين"، عرفنا أن عددهم يتجاوز 130 أسرة، متوسط أفراد الأسرة الواحدة 5 أشخاص (زوج وزوجة 3 أبناء)، يعيش 80% من هذه الأسر داخل قبر، مساحته 3 أمتار ونصف المتر، نصفها سجى فيه جسد الميت، والنصف الآخر ينامون فيه، فقد اضطروا لفتح المقبرة ووضع أمتعتهم البسيطة داخلها، ومن ثَّمَ العيش بجوار الموتى، أما الـ 20% الآخرين فيعيشون داخل عشش مصنوعة فوق المقابر ووسطها من الصفيح أو الخشب.
شاهد.. عشرات من الأسر يسكنون مع الموتى بمقابر علي زين العابدينيشترك جميع الأسر في مرحاضين، أحدهما خاص بالشباب والرجال ويبعد عن المساكن قرابة 1000 متر وهو المتواجد داخل مسجد على زين العابدين؛ أما الثاني فهو غرفة بالية الجدران ولا يوجد بها أي أسقف، وخصص هذا المرحاض للفتيات والسيدات والرجال المسنين، وبداخله صنبور مياه هو الوسيلة الوحيدة التي يحصل من خلالها الأهالي هناك على احتياجاتهم من مياه الشرب والاستخدام اليومي.
شاهد.. السيدات بمقابر علي زين العابدين يقضون حاجتهم في العراءيعتمد غالبية سكان "مقابر زين العابدين"، في مصدر دخلهم، على "النفحات" التي يتصدق بها عليهم زائري ضريح على زين العابدين، المتواجد داخل المسجد الذي يحمل نفس الاسم، وبعضهم يخرج في الصباح الباكر ليحلق بـ"عمال التراحيل"، أو يبيع مناديل أو أي خردوات بسيطة، توفر له قليلًا من الجنيهات التي تكفي وجبة واحدة بالكاد.
تقول "أم سيد"، وهي إحدى السيدات اللاتي يقطن هذا المكان: "نعيش في وسط المقابر منذ 50 عامًا"، واصفةً مستوى معيشتهم بـ"تحت الصفر"، ومشيرةً إلى أن حياتهم صعبة جدًا، واسوأ شيء يواجهونه هو انتشار تجار المخدرات والمدمنين وسط جنبات المكان.
تضيف "أم سيد"، أن مطالبهم بسيطة، ولا تتعدى آمالهم في أن توفر لهم الدول مساكن لائقة، وحياة كريمة، قائلةً: "عاوزين حد يسأل علينا، نفسنا يكون عندنا بيوت نسكن فيها بعيد عن هنا.. احنا ليل نهار بنشم روايح الميتين، الحياة هنا عذاب، وأطفالنا عندهم أمراض كتيرة بسبب التلوث اللي هنا".
وتصف "أم سيد"، أمنيتها الوحيدة بقولها: "نفسي أقابل الرئيس السيسي، واترجاه إنه يرحمنا ويخرجنا من هنا".
ويتفق مع "أم سيد"، في معاناة انتشار تجار المخدرات والمدمنين بالمكان، رجل يُدعى "محمد"، حيث يقول: "المفروض الحكومة تيجى تنضف المكان من تجار المخدرات والشمامين والبلطجية، الذين يختلقون مشكلات كثيرة".
يرى "محمد"، أن انتشار تجار ومدمني المخدرات في المكان، يفسد متعة السكنى بجوار حفيد النبي صلى الله عليه وسلم، قائلًا: "الشمامين بيفسدوا الروح الحلوة والسكن بجوار سيدنا علي زين العابدين، وخلوا الناس تنسى المحبة، وغابت من وسطهم الضحكة التى كانت بتطلع من القلب".
شاهد.. تجار المخدرات يحاصرون سكان مقابر علي زين العابدينمصدر الدخلأما "عم سيد"، ذلك المُسن الذي تجاوز الخامسة والخمسين من عمره، فيؤكد أن "الناس هنا عايشه على قدها، وما فيش حد معاه فلوس ياخد سكن بره؛ لأن اللى جاى على قد اللى رايح"، مشيرًا إلى أن مطلبه الوحيد هو حصوله على "شقة صغيرة"، تأويه هو وأولاده وأحفاده، وترحمهم من معاناة العيش داخل القبور، موضحًا أن حلمه يتمثل في أن يتمكن من إلحاق أحفاده بالمدارس، حتى لا يحرموا من التعليم مثل أبنائه. "سيد"، ليس له مصدر دخل ثابت، ولا يستطيع الحصول على معاش من وزارة التضامن الاجتماعي لعدم بلوغه الخامسة والستين، وهو الاشتراط القانوني الذي بدونه لن يتمكن من الحصول على معاش.
كان "سيد"، يعمل في بيع "حمص الشام" لزوار مسجد علي زين العابدين، وكان ما يتحصل عليه من جنيهات قلائل كفي أسرته بالكاد؛ إلا أن هذا الحال لم يدم طويلًا، بسبب مطاردة "البلدية" له، وهو ما اضطره إلى بقاء داخل المقابر واللجوء إلى تصليح وتعبئة "أنابيب الغاز" البدائية.
شاهد.. أحد سكان مقابر علي زين العابدين: نفسي أعلم أحفاديمأساة أخرى يعيشها سكان "مقابر زين العابدين"، وهي ذلك الرعب الذين يعيشون فيه صباح مساء بسبب ما وصفوه بـ"الأفعال الشيطانية" التي يُصدرها إليهم الجن الذي يسكن المكان، وهي التفاصيل التي ننقلها كاملة في الحلقة الثانية من حملة "أهالينا الطيبين".