علم أصول الفقه ونشأته وتطوره

علم أصول الفقه من أجل العلوم، ونحن نعرض له في هذا البحث الذي يشتمل على عشرة مباحث:

المبحث الأول: حقيقة علم أصول الفقه.

المبحث الثاني: موضوع علم الفقه والأصول.

المبحث الثالث: عمل الفقيه والأصولي.

المبحث الرابع: استمداد أصول الفقه

المبحث الخامس: الغاية من علم أصول الفقه.

المبحث السادس: موازنة بين علم أصول الفقه وعلم الفقه.

المبحث السابع: مدى الحاجة إلى علم أصول الفقه في الوقت الحاضر.

المبحث الثامن: نشأة علم أصول الفقه وتطوره.

المبحث التاسع: حكم تعلم أصول الفقه.

المبحث العاشر: مدارس أصول الفقه.

المبحث الأول

حقيقة علم أصول الفقه

اعتاد الأصوليون أن يعرفوا علم أصول الفقه باعتبارين:

الاعتبار الأول: بحسب الإضافة.

الاعتبار الثاني: بحسب العلمية.

الاعتبار الأول:

وهو أن أصول الفقه مركب إضافي، يحتاج إلى تعريف مفرداته.

وذلك أن لفظ (أصول الفقه) في أصل اللغة مركب إضافي، يدل جزؤه على جزء المعنى، فيتوقف فهم ذلك المعنى وإدراكه، على فهم كل من جزئيه على حدة.

الاعتبار الثاني:

وهو أن أصول الفقه نقل عن معناه الإضافي وجعل لقباً أي عَلَماً على الفن الخاص به من غير نظر إلى الأجزاء المكونة له، فيحتاج إلى تعريفه باعتباره مفرداً فقط.

* والفرق بين الإضافي واللقبي من وجهين( ):

- أحدهما: أن اللقبي هو العلم، والإضافي موصل إلى العلم.

- والثاني: أن اللقبي لا بد فيه من ثلاثة أشياء:

‌أ- معرفة الدلائل.

‌ب- كيفية الاستفادة من هذه الدلائل.

‌ج- حال المستفيد وهو المجتهد.

أما الإضافي فهو الدلائل خاصة.

ولما كانت معرفة المركب متوقفة على معرفة مفرداته، فلا بد من تعريف: العلم، والأصل، والفقه.

ونحن قبل الخوض في الكلام على مقدمات الأصول، ومباحثه، وحتى قبل الحديث عن النشأة، والموضوع، والغاية، والحاجة، والمسائل، والاستمداد، وحكم التعلم ….. إلخ.

نود أن نقف على حِّده، وتعريفه، لأنه لا يمكن للإنسان أن يخوض في أي علم من العلوم إلا بعد أن يتصوره تصوراً صحيحاً سليماً.

والطريق إلى التصور الصحيح، هو التعريف السليم الذي يوضح المراد من المعرَّف ويشرحه.

المطلب الأول: تعريف علم أصول الفقه بحسب الإضافة.

الفرع الأول: معنى العلم:

يطلق العلم ويراد منه أحد معانٍ ثلاثة:

1- المسائل والقضايا التي يبحث عنها في العلم.

2- إدراك هذه المسائل، أي معرفة حكمها على سبيل الجزم والاطمئنان، وهذا لا بد منه في العقائد.

3- الملكة التي تحصل لدارس هذه المسائل وممارستها( ).

والمقصود لدينا من هذه المعاني هو المعنى الأول، لأن المسائل هي موضوع الدراسة ومقصودها عرفاً، فمثلاً علم النحو يقصد منه مسائل هذا العلم، وعلم الطب يقصد منه مسائل هذا العلم …. إلخ.

الفرع الثاني: معنى الأصول:

البند الأول: في اللغة: وهي جمع أصل، وله معانٍ متعددة في اللغة أقربها إلينا معنيان:

أحدهما: ما يبنى عليه غيره، سواء أكان هذا البناء حسياً – كبناء الجدار على أساسه -، أم معنوياً – كبناء الحكم على دليله -.

والثاني: منشأ الشيء. ولكن المعنى الأول أشهر.

البند الثاني: في الاصطلاح: يطلق الأصل على معان خمسة( ).

1- الأصل بمعنى الدليل: تقول: أصل هذه المسألة الكتاب والسنة، أي دليلها، والأصل في وجوب الصلاة قول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( )، أي دليلها. وهذا المعنى عند الفقهاء فأصول الفقه إذاً (أدلته ).

2- الرجحان: كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح عند السماع والمتبادر إلى الذهن هو الحقيقة لا المجاز.

3- القاعدة الكلية أو المستمرة: كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، أي على خلاف القاعدة المستمرة.

وكذلك مثل: بني الإسلام على خمسة أصول، و(لا ضرر ولا ضرار)( ) أصل من أصول الشريعة.

4- الصورة المقيس عليها: وهي أحد أركان القياس، إذ لا بد من أصل يقاس عليه وفرع يلحقه حكم الأصل.

مثل قولهم: الخمر أصل النبيذ، فالنبيذ فرع في مقابلة أصله وهو الخمر.

5- المستصحَب: يقال لمن كان متيقناً من الطهارة وشك في الحدث: الأصل الطهارة. أي تستصحب الطهارة حتى يثبت حدوث نقيضها، لأن اليقين لا يزول بالشك.

والمراد من كلمة أصل هنا من بين المعاني الخمسة المذكورة هو المعنى الأول، وهو الدليل. فأصول الفقه أي أدلته، كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وغيرها.

الفرع الثالث: معنى الدليل:

البند الأول: في اللغة: المرشد، والكاشف، والدليل الذي يدلك( ).

البند الثاني: في الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري( ).

البند الثالث: شرح التعريف( ):

قوله (ما): أي شيء.

(يمكن التوصل ): أي يمكن الوصول إليه، سواء أكان عن طريق علمه، أو اعتقاده، أو ظنه.

( بصحيح النظر فيه ): أي أن يكون النظر من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى ذلك المطلوب.

(والنظر) هو:الفكر، والفكر حركة في النفس في المعقولات والمعاني.

(إلى مطلوب خبري): الخبري ما يخبر به كحدوث العالم، ووجوب الصلاة.

والمقصود لدينا هنا من المطلوب الخبري الحكم الشرعي.

مثال:

العالم: فإنه يمكن التوصل بالنظر في أحواله من الحدوث والتغير إلى مطلوب خبري وهو:

العالم لا بد له من محدث، بأن يقال: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث.

المطلوب الخبري، العالم لا بد له من محدث.

ومثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( ).

فإنه يمكن التوصل بالنظر في أحواله من كونه أمراً مثلاً إلى مطلوب خبري (حكم شرعي)، وهو التصديق بأن (أقيموا الصلاة) يفيد وجوبها، بأن يقال: (أقيموا الصلاة) أمر بإقامتها، والأمر بإقامتها يفيد وجوبها. فكل من العالم فقط (وأقيموا الصلاة) فقط، هو الدليل عند الأصوليين.

البند الرابع: أدلة الفقه نوعان( ):

أدلة كلية أو إجمالية، كالأمر والنهي، فإنه ينتج عنه حكمٌ كليٌّ، هو الوجوب أو التحريم. وكالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس ….. الخ.

وأدلة جزئية تفصيلية: وهي التي تدل على الحكم في مسألة بذاتها، كالأمر بالصلاة يدل على وجوبها، وقياس الأرز على البر في كونه ربوياً يفيد التحريم لوجود علة الربا.

ودلالة الدليل الأصولي على الأحكام إما قطعية أو ظنية، والأصولي يبحث عن الأدلة الكلية.

أما الأدلة الجزئية أو التفصيلية فهي موضوع بحث الفقيه. وحينئذ تكون أصول الفقه هي أدلة الفقه الكلية.

الفرع الرابع: الفقه:

البند الأول: في اللغة ( ): وردت فيه عبارات أصحها أنه بمعنى الفهم مطلقاً، سواء أكان الأمر دقيقاً أم بَدَهِياً.

ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ( )، وقوله سبحانه: فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً( ).

البند الثاني: في الاصطلاح: جاء فيه تعريفات كثيرة ولكن التعريف الذي سلم من الاعتراضات، والأشهر والأضبط عند علماء الأصول، هو تعريف الإمام الشافعي  وهو: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية )( ).

البند الثالث: شرح التعريف:

قوله ( العلم ): المقصود هنا الإدراك الذي يتناول العلم والظن.

لأن الأحكام العملية تثبت بالأدلة القطعية كما تثبت بالأدلة الظنية، والأدلة الظنية كلها معتبرة في باب الأحكام العملية، وعليه يقول الأصوليون الفقه من باب الظنون.

فليس المراد من ( العلم ) هنا الإدراك الجازم على سبيل اليقين، وإنما يشمل الظن وهو إدراك الحكم من دليله على سبيل الرجحان، بأن كان الدليل ظني الدلالة( ).

و ( العلم ) جنس في التعريف تدخل فيه سائر العلوم.

قوله (الأحكام):

أولاً: في اللغة: جمع حكم، وأصله المنع، ويطلق على القضاء والحكمة( ).

ثانياً: في العرف:

وهو إسناد أمر لآخر إما إثباتاً أو نفياً( ).

كالحكم بأن القمر طالع، أو غير طالع.

ثالثاً: في الاصطلاح: عند الأصوليين: هو خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين، على جهة الاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع( ).

أما عند الفقهاء: فهو (الأثر المترتب على خطاب الشارع).

لا نفس الخطاب الذي يعتبرونه دليلاً( )، فيقال: حكم الصلاة الوجوب ودليله قول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( ).

أ- فالمراد بالأحكام هنا( ): ما يثبت لأفعال المكلفين من وجوب، أو ندب، أو حرمة، أو كراهة، أو إباحة، أو صحة، أو فساد، أو بطلان.

ب- والمراد بالعلم بالأحكام هو: العلم بجملة منها لا بجميعها، والتهيؤ لمعرفة باقي الأحكام، فلا يكون العلم بمسألة واحدة أو مسألتين فقهاً.

فقد سئل العلماء المجتهدون عن بعض الأمور، فقال كل منهم لا أدري، كما حدث مع الإمام مالك رحمه الله، حينما سئل عن أربعين مسألة، فأجاب في أربع، وقال في ست وثلاثين منها لا أدري.

ومراد العلم هنا إدراك الأحكام عن طريق الدليل، سواء أكان الدليل قطعياً أو ظنياً، كما قدمنا في الحديث عند كلمة العلم.

رابعاً: قوله (الشرعية)( ):

الحكم قد يكون شرعياً وقد يكون غير شرعي، لذلك قيده بالشرعي.

أ- والمقصود بالشرعي هنا:

هو ما يتوقف معرفته على الشرع، سواء أكانت هذه المعرفة مباشرة كالأحكام المستفادة من النصوص. أو كانت بواسطة كالأحكام المستفادة من الاجتهاد.

وقوله الشرعية:

قيد في التعريف خرج به أربعة أنواع من الأحكام :-

1. الأحكام العقلية: وهي المستفادة عن طريق العقل، مثل الواحد نصف الإثنين، والكل أعظم من الجزء.

2. الأحكام الحسية: وهي المستفادة عن طريق الحس، كالنار محرقة، والشمس مشرقة.

3. الأحكام اللغوية أو الوضعية: وهو نسبة أمر إلى آخر بالإيجاب أو السلب، كعلمنا بأن الفاعل مرفوع، والحال منصوب، وبأن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر , وكعلمنا بقيام زيد أو بعدم قيامه.

4. الأحكام الثابتة بطريق التجربة: كالعلم بأن السم قاتل.

خامساً: قوله (العملية)( ):

الأحكام الشرعية ثلاثة أنواع: اعتقادية، ووجدانية، وعملية.

1. الأحكام الاعتقادية أو العقلية العلمية:

كوجوب الإيمان بالله تعالى، وملائكته: وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، والبعث، والحساب، والإيمان بأن القرآن حجة ….إلخ.

2. الأحكام الوجدانية ( ):

وهي الأحكام التي تتعلق بالناس، وملكاتهم النفسية، وذلك كالحكم بأن الصدق حسن، والكذب قبيح، وهكذا.

3. الأحكام العملية:

وهي تنقسم إلى قسمين أحكام العبادات، وأحكام المعاملات.

‌أ. أحكام العبادات: وتتعلق بصلاة المكلف، وصومه، وحجه، وزكاته……كقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول( )، وما يلحق بها من الأيمان والنذور والكفارات والأضاحي والذبائح.

‌ب. أحكام المعاملات: وتتعلق ببيع المكلف وإجارته وشركته ورهنه وزواجه وطلاقه …. كقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا( )، وقوله تعالى: فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء( ).

‌ج. فالمراد بالعملية هنا: أي الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين الصادرة عنهم كصلاتهم، وبيوعهم وجناياتهم. أي ما كان من العبادات والمعاملات.

وقوله (العملية) قيد في التعريف خرج به نوعان من الأحكام:

1- الأحكام الاعتقادية والعقلية العلمية. لأن مجال بحثها في علم الكلام.

2- الأحكام الوجدانية. لا مجال له في الأحكام، لأنه جبليٌّ لا كسبيٌّ.

سادساً: قوله ( المكتسب)( ):

الأحكام الشرعية العملية منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو غير مكتسب، والفقه خاص بالمكتسب.

ومعنى (مكتسب) أي مستفاد من الأدلة التفصيلية بطريق النظر والإستدلال.

وقوله المكتسب: قيد في التعريف خرج به خمسة أنواع من العلوم:

1- علم الله تعالى، لأنه علم لازم لذاته، وهو يعلم الحكم ويعلم الدليل.

2- علم الملائكة.

3- علم الرسول  الحاصل عن طريق الوحي، لأنه غير مكتسب من الأدلة.

4- علم المقلدين، لأنه مأخوذ بطريق التقليد لا بطريق النظر والاجتهاد.

5- علمنا بالأمور التي علم بالضرورة كونها من الدين، كوجوب الصلوات الخمس وشبهها.

فجميع هذه الأنواع ليس بفقه لأنها غير مكتسبة.

سابعاً: قوله (أدلتها التفصيلية): الدليل سبق بيانه.

قوله ( التفصيلية).

أي الجزئية التي تتعلق كل منها بمسألة خاصة وينص عليها حكم معين مثل:

1- قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم( )، فهذا دليل تفصيلي، أي دليل جزئي يتعلق بمسألة خاصة وهي نكاح الأمهات، ويدل على حكم معين هو حرمة نكاح الأمهات.

2- قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ( ).

دليل جزئي يتعلق بمسألة معينة، وهي إعداد القوة من قبل الجماعة، ويدل على حكم معين خاص بها، وهو وجوب إعداد القوة من قبل الجماعة لإرهاب العدو.

3- قول الرسول : (العَمْدُ قَوَدٌ)( ).

دليل جزئي يتعلق بمسألة خاصة هي، القتل العمد، ويدل على حكمها وهو وجوب القصاص.

فالأدلة التفصيلية هي التي تدلنا على حكم كل مسألة، ومن ثم فهي موضوع بحث الفقيه ليتعرف على الأحكام التي جاءت بها، مستعيناً على ذلك بما قرره علم الأصول من قواعد للاستنباط ومناهج للاستدلال.

أما الأصولي فلا يبحث في هذه الأدلة، وإنما يبحث في الأدلة الإجمالية أي الكلية، ليتعرف على ما فيها من أحكام كلية، ليضع القواعد التي يطبقها الفقيه على الأدلة الجزئية حتى يصل إلى معرفة الحكم الشرعي.

لذلك جاءت كلمة (التفصيلية) في التعريف قيداً خرج به:

العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية, لأن المقلد إذا علم أن هذا الحكم أفتى به المفتي، وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه، علم بالضرورة أن ذلك حكم الله تعالى في حقه.

فهذا وأمثاله علم بأحكام شرعية كلية مكتسبة، ولكن لا من دليل تفصيلي، وإنما من دليل إجمالي، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة بدليل مفصل يخصها، بل بدليل واحد إجمالي يعم الجميع.

والأدلة الكلية أو الإجمالية: هى التى لا تتعلق بمسألة بخصوصها، ولا تدل على حكم بعينه ,كمصادر الأحكام الشرعية الأربعة الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع وما يتعلق بها من مثل الأمر للوجوب ,و النهى للتحريم, فهذه الأدلة محل بحث الأصولي أما الأدلة التفصيلية فهى محل بحث الفقيه.

المطلب الثاني: تعريف أصول الفقه اصطلاحاً باعتباره علماً مستقلاً، و عَلَماً على هذا الفن.

أما تعريفه اللقبي، أي باعتباره لقباً على علم مخصوص فهو:

( العلم بالقواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية، من الأدلة التفصيلية )( ).

هذا المعنى اللقبي لأصول الفقه، نقله الأصوليون من المعنى التركيبي إلى اللقبي، إذ لو بقي المعنى التركيبي وهو دلائل الفقه، لما كان هذا المعنى التركيبي شاملاً لجميع المباحث المذكورة في هذا الفن، فالاجتهاد والترجيح، خارجان من دلائل الفقه، وهما من مباحث هذا الفن.

فلكي يكون أصول الفقه شاملاً لجميع المباحث المذكورة في هذا الفن، نقل الأصوليون هذا المركب الإضافي، وجعلوه عَلَماً ولقباً على الفن المخصوص، إذ معناه والحالة هذه ما ذكرناه.

لأن استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية المعتبرة شرعاً، إنما يكون على وفق قواعد وقوانين خاصة يسير المجتهد على هديها، ويسترشد بها في فهم الأحكام وأخذها من تلك الأدلة، حتى يكون اجتهاده مقبولاً.

ولحرص العلماء على خدمة الشريعة الإسلامية أرادوا أن يبينوا للناس:

1- الطريقة التي سار عليها أولئك المجتهدون في الاستنباط، ليسير فيها من توافرت لديه شروط الاجتهاد، فيجتهد كما اجتهدوا، ويبني كما بنوا.

2- ليعلم من لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد الأدلة التي استندوا إليها في تشريع الأحكام، وكيفية الإستدلال بها على تلك الأحكام، فيتقبل ما نقل عنهم من أحكام بصدر رحب، وتطمئن نفسه إليها أيما اطمئنان.

3- وضعوا قواعد عامة تطبق في فهم الأحكام من الأدلة وتستخدم في استمدادها منها، سواء في ذلك الأحكام التي وردت النصوص بها، والأحكام التي لم ترد بها النصوص.

4- أضافوا إلى هذه القواعد، القوانين والأبحاث المتعلقة بمن يتوصل إلى استنباط الأحكام من الأدلة، وهو المجتهد، فبينوا الاجتهاد، وشروطه، وأحكامه، والتقليد، وأحكامه.

وأطلقوا على هذه القواعد والأبحاث اسماً خاصاً هو أصول الفقه.

فأصول الفقه هو:

(القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية، من أدلتها التفصيلية)

الفرع الأول: شرح التعريف:

البند الأول: قوله: (القواعد)( ):

جمع قاعدة: وهي الضابط الذي يؤدي إليه بحث الأصولي، ويستخدمه الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.

والقاعدة: عبارة عن قضية كلية، تشتمل على أحكام جزئياتها الكثيرة، ويعرف من خلالها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعاتها، إما على سبيل القطع أو على سبيل الظن.

مثال:

1- (الأمر المطلق يدل على الوجوب )

فإنه قاعدة، لأنه قضية كلية ينطبق الحكم فيها على كل فرد من أفراد المطلق، كقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ( ).

وقوله جل شأنه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( ).

وقوله سبحانه: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً( ).

فجميع هذه الأوامر المطلقة عن القرائن، التي تبين المراد منها، تندرج تحت هذه القاعدة، ويعرف منها حكمها وهو: وجوب المأمور به.

كوجوب الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعقود، وإعطاء النساء مهورهن.

2-(النهي المطلق يدل على التحريم)

فإنه قاعدة، لأنه قضية كلية، ينطبق الحكم فيها على جميع صيغ النهي المطلقة عن القرائن الخارجية المبينة للمراد منها، ويعرف بهذا الانطباق حكم المنهي عنه، وهو: التحريم، كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق( ).

وقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل( ).

وقوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ( ).

فجميع صيغ النهي الواردة في هذه النصوص تندرج تحت هذه القاعدة.

ويعرف بذلك حكم المنهي عنه، وهو التحريم: كتحريم الزنى، وقتل النفس بغير حق، وأكل أموال الناس بالباطل، والسخرية من الغير رجلاً كان أو امرأة.

البند الثاني: بقي أن نقول القواعد الأصولية نوعان:

لغوية وشرعية.

 وإنما يحتاج إلى القواعد اللغوية، لأن المصدرين الرئيسين للأحكام الشرعية، وهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم ، قد وردا بلغة العرب، فمست الحاجة إلى معرفة طرق دلالات الألفاظ على معانيها، وكيفيات وضع الألفاظ لمعانيها، ومعرفة المراد من الأساليب.

 ويحتاج إلى القواعد الشرعية، لكونها الأسس والمبادئ التي بني عليها تشريع الأحكام مثل: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، و(الحرج مدفوع شرعاً )، و(الضرر لا يزال بالضرر).

 (والقواعد) قيد في التعريف للاحتراز عن الأمور الجزئية التي ليست بقواعد.

كالاستدلال على إباحة البيع، وحرمة الربا في قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا( ).

وإنما يبحث في الأدلة الكلية ودلالتها، لوضع القواعد الكلية، مثل: الكتاب، والسنة أدلة يحتج بها.

والنص مقدم على الظاهر، والمتواتر مقدم على الآحاد، المقيد على المطلق، وكل ما أمر به الشارع هو واجب ونحوها.

البند الثالث: قوله (التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام)( ):

معناه أن هذه القواعد تكون وسيلة وطريقاً للمجتهد إلى فهم الأحكام وأخذها من الأدلة.

وهي قيد في التعريف خرج به شيئان:

أحدهما: القواعد التي لا يوصل البحث فيها إلى شيء، كأن تكون مقصودة لنفسها كقاعدة (العدل أساس الملك)، أو كقواعد الخيارات والضمان، فهي لا توصل إلى الاستنباط.

الثاني: القواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط غير الأحكام، كقواعد العلوم الأخرى مثل الهندسة والجبر….الخ.

قوله (الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية).

قد سبق شرحه وبيان محترزاته عند الحديث عن معنى الفقه فأنظره في موضعه.

المبحث الثاني:

موضوع علم الفقه والأصول( )

المطلب الأول: موضوع علم الأصول.

موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث عنه في ذلك العلم.

وموضوع علم الأصول هو: الأدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت بها من الأحكام الكلية.

والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة.

وهذا أولى من قصر موضوع علم الأصول على الأدلة الشرعية الكلية.

المطلب الثاني: موضوع الفقه:

هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها، فالفقيه يبحث في بيع المكلف، وإجارته، وصلاته، وصومه، وحجه، ووقفه، لمعرفة الحكم الشرعي في فعل كل هذه الأفعال، وكل عقد، أو تصرف، من تلك العقود والتصرفات.

المبحث الثالث

عمل االفقيه والأصولي( )

المطلب الأول: عمل الأصولي:

الأصولي يبحث في الكتاب، والسنة، وغيرهما من الأدلة الإجمالية، وذلك بالنظر في أحوالها، وكيفياتها المتنوعة، من عام، وخاص، وأمر، ونهي، ومطلق، ومقيد، ويضع القواعد التي تبين الحكم الكلي منها، فيبحث مثلاً في الأوامر الواردة في الكتاب والسنة، لكي يتوصل من ذلك إلى الحكم الكلي الذي تدل عليه تلك الأوامر.

وبالبحث يظهر له أنها تدل عند إطلاقها على وجوب المأمور به، فيضع قاعدة عامة تقول: (الأمر المطلق يدل على الوجوب).

ويبحث كذلك في النواهي الواردة فيها، ليتوصل إلى الحكم الكلي، الذي تدل عليه تلك النواهي.

وبالبحث يتضح له أنها عند إطلاقها وتجردها من القرائن تدل على التحريم، فيضع قاعدة عامة تقول: (النهي المطلق يدل على التحريم).

ويبحث كذلك في صيغ العموم الواردة في الأدلة الشرعية، حتى يتوصل إلى ما تدل عليه تلك الصيغ، وبالبحث يظهر له أنها تتناول عند عدم التخصيص- جميع أفرادها علي سبيل القطع. فيضع قاعدة عامة تقول: (العام الذي لم يدخله التخصيص يتناول جميع أفراده قطعاً).

وهكذا يصنع في سائر الأنواع التي يتنوع إليها الدليل الشرعي، فهو يقرر القواعد والضوابط التي يستعين بها الفقيه على استنباط الأحكام الجزئية من أدلتها التفصيلية.

وخلاصة ذلك:-

إن عمل الأصولي ينحصر في البحث في الأدلة الإجمالية، واستخلاص القواعد الكلية منها، ليستعين بها الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية العملية، وتقرير هذه القواعد وإثباتها بالأدلة الشرعية.

المطلب الثاني: عمل الفقيه:

الفقيه هو من صار الفقه سجية له، فهو بمعنى المجتهد أوهو من قامت فيه ملكة استنباط الأحكام وتحصيلها من أدلتها.

فإذا أراد الفقيه معرفة حكم من الأحكام الجزئية، أخذ القواعد الأصولية وطبقها على الأدلة الجزئية، ليصل بذلك إلى ما تدل عليه من الأحكام الشرعية.

فمثلاً إذا أراد الفقيه معرفة حكم الصلاة، فإنه يبحث في الأدلة التفصيلية عن دليل يتعلق بالصلاة فيجد قول الله تبارك وتعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ( )، فينظر في هذا الدليل الجزئي فيجد فيه الأمر بإقامة الصلاة، في هذه الحالة يستخدم القاعدة الأصولية المبينة لحكم الأمر التي تقول: (الأمر المطلق يدل على الوجوب) فيعلم منها أن أقيموا أمر يدل على الوجوب وحينئذ يحكم على الصلاة بالوجوب فيقول: (الصلاة واجبة).

وإذا أراد الوصول إلى حكم الزنا من قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى( ).

فإنه يبحث في هذا الدليل الجزئي، فيجد فيه النهي عن قربان الزنا، وفي هذه الحالة يستخدم القاعدة الأصولية التي بينت حكم النهي وهي تنص على: (النهي المطلق يدل على التحريم) فيعلم أن قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى( ) يدل على تحريم الزنا وحينئذ يحكم على الزنا بالتحريم فيقول: (الزنا محرم).

وهكذا يفعل في كل عمل يريد أن يعرف حكمه، فإنه يبحث أولاً عن الدليل الجزئي المتعلق بذلك العمل، ويطبق عليه القاعدة الأصولية التي يندرج تحتها، وبذلك يصل إلى الحكم الذي يريد معرفته.

وخلاصة ذلك:-

إن عمل الفقيه ينحصر في النظر في الأدلة التفصيلية، واستنباط الأحكام الشرعية العملية من هذه الأدلة، باستخدام القواعد الأصولية.

وذلك بأن يأخذ الدليل الجزئي ويضم إليه القاعدة الأصولية التي يندرج تحتها، ويرتب ذلك ترتيباً منطقياً فيحصل على النتيجة المطلوبة.

المبحث الرابع

استمداد أصول الفقه( )

استمداد علم أصول الفقه من ثلاثة علوم:-

1- علم التوحيد.

2- علم اللغة العربية.

3- الأحكام الشرعية.

*أما علم التوحيد:-

فتتوقف الأدلة على معرفة البارئ سبحانه وتعالى، وصدق المبلغ وهو الرسول  وهو يتوقف على دلالة المعجزة على صدقه.

* وأما علم اللغة العربية:-

فلأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية، والاستدلال بها يتوقف على معرفة اللغة، من حقيقة، ومجاز، وعموم، وخصوص، وإطلاق، وتقييد، ومنطوق، ومفهوم، وغير ذلك…….

* وأما الأحكام الشرعية:-

فالمراد تصورها، وذلك لأن المقصود إثباتها أو نفيها، مثلاً:

في الأصول: إذا قلنا الأمر للوجوب.

وفي الفقه: إذا قلنا الوتر واجب.

ولا يمكن فهم الأصول بدون تصور الأحكام، ولا يقصد بالأحكام العلم بإثباتها ونفيها، لأن ذلك فائدة العلم، ويتأخر حصوله عنه، فلو توقف عليه كان دوراً.

لذلك لا بد للناظر في الأحكام أن يكون عالماً بحقائق الأحكام، ليتصور القصد إلى إثباتها ونفيها، وأن يتمكن بذلك من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة وكثرة الشواهد.

المبحث الخامس

الغاية من علم أصول الفقه( )

إن هذا العلم من أشرف العلوم، وأجلها قدراً، وله من الفوائد العظيمة ما لا يجمعه الحصر، ولا يأتي عليه الذكر.

ويمكن إجمال الغاية من علم الأصول بأنه:-

(الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة)

ولكن يمكن أن نوضح بعض هذه الفوائد أيضاً وتفصيلها في الأمور التالية:-

1- التعرف على الأسس التي بنيت عليها الأحكام الشرعية، والمقاصد التي تهدف إلى تحقيقها.

2- القدرة على استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس، أو الاستحسان، أو الاستصحاب، أو المصالح المرسلة، أو غيرها للوقائع التي لم يرد نص بحكمها استنباطاً صحيحاً.

3- تطبيق قواعده، وبحوثه، ونظرياته الكلية، على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية الدالة عليه.

4- معرفة ما استنبطه المجتهدون من أحكام، ومقارنة آرائهم، ومذاهبهم، في المسألة المجتهد فيها، والترجيح بينها ترجيحاً صحيحاً بالنظر في الأدلة التي استند إليها كل قول ووجوه استمداد الحكم من الدليل، ثم ترجيح القوي منها، إلى غير ذلك من الفوائد التي يصعب حصرها.

المبحث السادس

موازنة بين علم أصول الفقه وعلم الفقه

بنظرة فاحصة لما سبق من موضوعات، يتضح لنا الفرق بين الأصول، والفقه في النواحي التالية:

المطلب الأول: من ناحية الحقيقة:

الفرع الأول: حقيقة علم أصول الفقه:

يختلف علم أصول الفقه عن علم الفقه في الحقيقة، فحقيقة علم الأصول في الاصطلاح الشرعي، عبارة عن إدراك القواعد والبحوث، التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية، من الأدلة التفصيلية.

أو هي عبارة عن نفس القواعد والبحوث إذ كما يطلق علم الأصول على إدراك القواعد يطلق على نفس القواعد.

الفرع الثاني: أما حقيقة علم الفقه:

فحقيقة علم الفقه في الاصطلاح الشرعي، عبارة عن إدراك الأحكام الشرعية العملية من الأدلة التفصيلية.

أو عبارة عن العلم بمجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية.

فمن المتفق عليه أن العلماء على اختلاف مذاهبهم يقولون أن كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل، يستطيع الفقيه أن يستنبط له من الدليل التفصيلي حكماً، كوجوب الصلاة، وحل البيع، وحرمة الربا، ومجموع هذه الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل، المستنبطة من النصوص فيما وردت فيه نصوص، والمستنبطة من الدلائل الشرعية الأخرى فيما لم ترد فيه نصوص هو الفقه.

المطلب الثاني: من ناحية الموضوع:

الفرع الأول: موضوع علم الأصول:

يختلف موضوع علم أصول الفقه عن موضوع الفقه، فموضوع علم أصول الفقه هو الأدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية.

والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة.

فالأصولي يبحث في الدليل الشرعي الكلي، كالقرآن مثلاً من حيث ما ينتج من أحكام كلية، فنصوص القرآن التشريعية لم ترد بصيغة واحدة، بل منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، ومنها ما ورد بصيغة العموم، ومنها ما ورد بصيغة الإطلاق، فهذه الصيغ أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام وهو القرآن.

هذه الأنواع الكلية لهذا الدليل العام يبحث فيها الأصولي، مستعيناً بأساليب اللغة، وبالاستعمالات الشرعية، فإذا وصلت نتيجة بحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الوجوب، وضع قاعدة تقول: (الأمر عند إطلاقه يدل على الوجوب)، أو (الأمر للوجوب)، وإذا بحث فأداه بحثه إلى أن صيغة النهي تفيد التحريم، وضع قاعدة تقول: (النهي عند إطلاقه يدل على التحريم)، أو (النهي للتحريم) وهكذا.

الفرع الثاني: موضوع الفقه:

هو فعل المكلف، من حيث ما يثبت به من الأحكام الشرعية.

فالفقيه يبحث في بيع المكلف، وهبته، وتوكيله، وصلاته، وزكاته، وصومه، وحجه، وقذفه، وسرقته، وإقراره، لمعرفة الحكم الشرعي الذي يمكن أن يتعلق بكل فعل من هذه الأفعال، وذلك باستخدام القواعد التي وضعها الأصولي، والتي يأخذها الفقيه على أنها قواعد مسلمة في استنباط الحكم من الدليل التفصيلي.

فمثلاً:

1- يرى أن كلمة (حافظوا) في قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ( ).

أمر فينطبق على هذا الدليل التفصيلي القاعدة الأصولية التي تقول: (الأمر للوجوب) ويحكم بعد ذلك على الصلاة بأنها واجبة.

2- يرى أن كلمة (لا تفرقوا) في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ).

لفظ ( لا تفرقوا ) أفاد النهي فينطبق على هذا الدليل التفصيلي، القاعدة الأصولية التي تقول: (النهي للتحريم)، فيحكم بعد ذلك على التفرق بأنه حرام.

3- ويرى أن لفظ (رقبة) في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا( ).

مطلق فيطبق على هذا الدليل التفصيلي، القاعدة الأصولية التي تنص على أن المطلق يدل على أي فرد، فيحكم بأنه يجزئ في كفارة الظهار تحرير رقبة، سواء أكانت هذه الرقبة مسلمة أو كافرة.

المطلب الثالث: من ناحية الاستمداد:

يختلف علم أصول الفقه عن علم الفقه في الاستمداد، فأصول الفقه مستمد كما سبق من علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية.

أما علم الفقه: فهو مستمد من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

المطلب الرابع: من ناحية الغاية المقصودة:

الغاية المقصودة من علم أصول الفقه، تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية، لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من هذه الأدلة.

فبقواعده تستنبط الأحكام الشرعية، وتفهم النصوص التشريعية، ويدرك ما يزال به خفاء الخفي عند التعارض.

وبنظرياته يمكن استنباط الحكم من القياس، والاستحسان، والاستصحاب، في الوقائع التي لا نعثر على حكمها في النص الشرعي. كما يمكن بواسطة هذه النظريات المقارنة والموازنة بين المذاهب المختلفة في حكم الواقعة الواحدة، فأصول الفقه عماد الفقه المقارن.

أما الغاية المنشودة من الفقه: فهي الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة.

المبحث السابع

مدى الحاجة إلى علم أصول الفقه في الوقت الحاضر( )

بعد عقد هذه الموازنة بين علم أصول الفقه وعلم الفقه، يتضح لنا مدى الحاجة إلى علم أصول الفقه خاصة في الوقت الحاضر، ذلك أن:

التشريع وليد الحاجة فلا يظهر أي تشريع- سماوي أو وضعي- على مسرح الوجود إلا بعد أن تحفز الحاجة إليه. فإذا وجدت هذه الحاجة ونتج عنها التشريع، لاحظنا أن كل تشريع من التشريعات لا يفي بالنسبة لما يجد من الوقائع.

فالنصوص سماوية أو وضعية متناهية، والوقائع غير متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، لذلك كانت الحاجة ماسة إلى رد الوقائع التي لا نص فيها إلى الوقائع التي فيها نص، قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار( )، بمعنى قيسوا ما لا نص فيه على ما فيه نص وهذا لا يكون إلا بعد معرفة القياس، وأركانه، وشروطه، وعلله، وذلك كله طريقه أصول الفقه.

عدا عن ذلك فقد نجد في التشريع بنوعيه نصوصاً لا يعرف المراد منها إلا المجتهد، فالتشريع أيا كان قد يحتاج في فهم بعض نصوصه إلى الاجتهاد، ولا أدل على ذلك من حديث معاذ حين بعثه الرسول  إلى اليمن، وقال له: بم تقضي؟، قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي ولا آلوا. فضرب رسول الله  على صدر معاذ، وقال له: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله( ). ففي هذا الحديث إشارة إلى أن النصوص التشريعية قد يحتاج في فهم بعضها إلى الاجتهاد.

وإذا كان هذا هو الشأن في النصوص السماوية، فالنصوص الوضعية من باب أولى.

المبحث الثامن

نشأة علم أصول الفقه وتطوره( )

المطلب الأول: في عصر الرسول :

يعتبر علم أصول الفقه من حيث التدوين والتأليف من العلوم التي ظهرت في أواخر القرن الثاني الهجري، حيث ظهر كتاب الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه المسمى ((الرسالة))، أما من حيث القواعد واستنباط الأحكام من الأدلة بوجه عام فإنه كان مصاحباً للفقه، لأنه حيث يكون فقه يكون لا محالة. لأنه لا بد من وجود قواعد أو ضوابط له، وهذه هي مقومات علم أصول الفقه وحقيقته.

 وقد كانت الأحكام في زمن الرسول  تؤخذ عنه بما يوحى إليه من القرآن الكريم، وما يبينه في سنته الشريفة، إلا أنه كانت هناك إشارة في عهد رسول  إلى الاجتهاد متمثلة في حديث معاذ بن جبل، لما أرسله رسول الله  إلى اليمن فقال له: (بم تقضي يا معاذ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله  على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى الله ورسوله)( ).

 ولما لحق الرسول  بالرفيق الأعلى، قام كبار الصحابة من بعده بمنصب الإفتاء والقضاء بين الناس.

المطلب الثاني: في عصر الصحابة رضوان الله تعالى عنهم:

ومن المعلوم أن استنباط الفقه كان في عصر كبار الصحابة ، وكان منهم من يتصدى للقضاء والإفتاء بين الناس، كعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب  وغيرهم.

وعلى الرغم من تصدي هؤلاء الصحابة للإفتاء بين الناس إلا أن فتواهم لم تكن عن هوى أو بغير قيد ولا ضابط، بل كانت لهم معرفة تامة بعلوم اللغة العربية، ودراية كاملة بأسباب النزول، وورود الأحاديث، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين والمطلق والمقيد، والعام والخاص…الخ.

مما هو مذكور في أصول الفقه. إضافة إلى معرفتهم بأسرار التشريع الإسلامي ومقاصده بسبب مصاحبتهم وملازمتهم لرسول الله .

لذلك فقد كان زادهم في هذه الفترة القرآن الكريم، والسنة النبوية، فكانوا إذا أرادوا الوقوف على حكم من الأحكام لجأوا أولاً إلى كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيه حاجتهم طلبوا ذلك من السنة من غيرهم من أصحاب رسول الله ، فإن لم يجدوا في المسألة المبحوثة نصاً من الكتاب والسنة، اجتهدوا وبحثوا عن الأشباه والنظائر والأمثال، ثم أفتوا بما ظهر لهم من الأدلة، وربما وقع اتفاق المجتهدين منهم على حكم بعض المسائل فيعتبر حجة وهو المسمى بالإجماع، وعلى هذا فقد وجد دليل آخر في عصر الصحابة وهو الإجماع، فأصبحت مصادر التشريع في عصر الصحابة هي الكتاب والسنة والإجماع، والقياس.

يدل لذلك ما ورد عن هؤلاء الصحابة من أقوال فهذا عمر بن الخطاب  يرسل خطاباً إلى أبي موسى الأشعري  يقول فيه: (الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال، ثم أعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق…الخ)( )، وهذا علي بن أبي طالب  يجعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة كحد القذف ويدلل على ذلك بقوله: (أرى أن من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد القذف)( ).

فهو بذلك ينهج نهج حكم المآل أو سد الذرائع.

وكذلك عبد الله بن مسعود  يقول في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، إن عدتها بوضع الحمل.

ويستدل على ذلك بقوله تعالى: وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْن حَمْلَهُنّ( )، ويكمل الاستدلال بأن سورة الطلاق التي فيها هذه الآية نزلت بعد سورة البقرة التي فيها قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً( )، وهو بذلك يشير إلى قاعدة من قواعد الأصول وهي: إن النص اللاحق ينسخ النص السابق وإن لم يصرح بذلك( ).

على أنه من الثابت كذلك حديث معاذ الذي أشرنا إليه، فإن هذا الحديث يثبت صحة القياس الذي هو من أهم مباحث علم الأصول، كما يثبت صحة المصالح المرسلة وغير ذلك.

وخلاصة ذلك، أننا نرى أن مصادر التشريع في عهد الصحابة رضوان الله عليهم تتمثل في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

المطلب الثالث: في عصر التابعين رضوان الله عليهم:

فإذا انتقلنا إلى عصر التابعين، وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثر الناس الذين دخلوا في الإسلام سواء أكانوا من العرب، أو العجم، واستجدت بعض الحوادث التي لم يكن لها أحكام ونصوص تشريعية. ونظرنا إلى مصادر التشريع، في عصرهم وجدنا المصادر المتقدمة، إضافة إلى ذلك فتاوى وأقوال الصحابة، فكثر الاجتهاد، وتشعبت طرق المفتين.

ولكن من الملاحظ في هذه الفترة أن التابعين منهم من كان ينحو نحو التمسك بظواهر النصوص ولا يأخذون بالقياس إلا نادراً، وكانوا يعرفون بأهل الحديث بالحجاز، وعلى رأسهم من الصحابة عبد الله بن عمر  فقد كان أبعد الناس عن الأخذ بالرأي إلا لحاجة ملحة، وخلفه من التابعين سعيد بن المسيب  فقد كان أجمع الناس لحديث رسول الله  وفتاوى أبي بكر، وعمر، وعثمان.

*وكان من أهم الأسباب التي حملت أهل الحجاز على الوقوف عند ظواهر النصوص ما يلي:-

1- تأثرهم بطريقة شيخهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

2- كثرة ما عندهم من الآثار عن الرسول ، وعن الصحابة رضي الله عنهم، ووجودهم في مكان نزول الوحي، حيث نزل القرآن الكريم ورويت الأحاديث والآثار النبوية.

3- قلة ما يعرض لهم من الحوادث لبساطة حياتهم( ).

وفي المقابل كان الفقهاء في العراق، الذين كانوا يرون أن أكثر الأحكام الشرعية معقولة المعنى، وأن جميع الأحكام شرعت لمصالح العباد، فكانوا يبحثون عن علل تلك الأحكام، ويجرون عليها الأحكام وجوداً وعدماً.

وكانوا كثيراً ما يردون الأحاديث إن خالفت تلك الضوابط، ولا سيما إن وجدوا لها معارضاً أو قادحاً، و القوادح في الرواية عندهم كانت كثيرة لبعدهم عن موطن الرسول ، وكان على رأس هذه المدرسة من الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تلميذ سيدنا عمر بن الخطاب، وحامل لواء طريقته، ثم من التابعين علقمة النخعى تلميذ ابن مسعود، ثم إبراهيم النخعي وعليه تخرج علماء العراق.

ومن أهم أسباب أخذهم بالرأي ما يلي:-

1- تأثرهم بطريقة شيوخهم المذكورين.

2- أن العراق كانت أسعد الأمصار بسكنى كثير من الصحابة الذين عرفوا بالفقه والفتوى، كابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك، فاكتفوا بالرواية عنهم، ولم يطلبوا الحديث عن غيرهم.

3- كثرة الوقائع والحوادث المستحدثة، فإن من ضرورات المدنية كثرة المستجدات والمتغيرات، فكان لابد وأن يتعرفوا أحكام تلك الحوادث( ).

كل هذه العوامل وغيرها جعلت بضاعتهم من الحديث قليلة بعكس أهل الحجاز، فالأخذ بالرأي عند أهل العراق كان أكثر من أهل الحجاز ولا يعنى ذلك إغفال جانب الحديث فإن هذا مما لا يليق أن يتطرق إلى فهم عاقل فضلاً عن مسلم.

كما كان أهل الحجاز يأخذون بالرأي وإن كان قليلاً بالنسبة إلى أهل العراق( ).

المطلب الرابع: في عصر الأئمة المجتهدين رحمهم الله تعالى:

حتى إذا انتقلنا إلى عصر الأئمة المجتهدين فإننا نجد إضافة إلى ما تقدم من مصادر التشريع، مناهج الاستنباط، وقواعد استخراج الفروع الفقهية تتميز بشكل واضح. فهذا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يحدد منهجه في استنباط الأحكام فيقول: (آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله  والآثار الصحاح عنه التي فشت إليها أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وعد رجالاً قد اجتهدوا فلي أن أجتهد كما اجتهدوا)( ).

- وكذلك نجد الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه يسير على منهاج أصولي واضح، فيقرر أن أصول مذهبه هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابة، والاستحسان، وسد الذرائع والمصالح المرسلة … إلخ( ).

- وهكذا كان لكل إمام من الأئمة المجتهدين أصوله ومناهجه التي يسير عليها. كما بينا أيضاً في اتجاه أهل المدرستين العراقيين والحجازيين وكان النزاع محتدماً بين أصحاب هاتين المدرستين.

- وظهر المتعصبون لكلا الاتجاهين، فاتسع الخلاف، وأخذ كل فريق ينتصر لطريقة شيخه ويدافع عن مذهبه، إلى أن قيض الله تعالى لهذه الأمة من أخذ بيدها إلى الطريق السوي، وبين القواعد، والقوانين التي يحتكم الجميع إليها وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه.

المطلب الخامس: الإمام الشافعي يدون علم الأصول:

من المتفق عليه عند جمهور العلماء أن أول من دون علم أصول الفقه وكتب فيه كتاباً مستقلاً هو: الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، حيث ألف فيه رسالته المشهورة التي كتبها إلى الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدى المتوفى سنة (198هـ)، وهو أحد أئمة الحديث في الحجاز بعد أن أرسل إليه أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن، والسنة فوضع له كتاب (الرسالة)، ومما تجدر الإشارة إليه أن الإمام الشافعي لم يسم كتابه بـ (الرسالة ) وإنما كان يطلق عليه لفظ (الكتاب)، أو يقول (كتابي)، أو (كتابنا) وإنما أُطلِقَ عليه اسم الرسالة بسبب إرسالها إلى الإمام عبد الرحمن ابن مهدى، وقد بين الإمام الشافعي في هذه الرسالة المنهج الذي يجب أن يسير عليه كل مجتهد، وجمع بين منهجي أهل السنة، والرأي، مبيناً الناسخ والمنسوخ، في الكتاب، والسنة، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والعام الذي أريد به ظاهره، والعام الذي أريد به غير ظاهره، وحجية خبر الآحاد، وبين منزلة السنة ومكانتها، وتكلم على القياس، والإجماع، والاجتهاد، وشروط المفتي، وغير ذلك من المباحث النفيسة.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل ألف الشافعي كتباً أخرى تعتبر حجة وقانوناً يرجع إليها عند الاختلاف ( ).

 ولقد تلقى العلماء ما وصل إليه الإمام الشافعي في تحرير أصوله بالدراسة والبحث، ولكنهم اختلفوا من بعده على اتجاهين ( ):

1- فمنهم من اتجه لشرح أصول الشافعي مبيناً ما أجمل فيها ومخرجاً عليها.

2- ومنهم من أخذ بما قرره الشافعي، وخالفه في بعض التفصيلات وزاد بعض الأصول الأخرى، ومن هؤلاء الحنفية، فقد أخذوا بما قال به الإمام الشافعي وزادوا عليه بعض الأصول كالاستحسان، والعرف، وكذلك المالكية وزادوا عليه بعض الأصول كإجماع أهل المدينة الذي أخذوه عن الإمام مالك، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وما إلى ذلك من الأدلة المختلف فيها بين العلماء.

المبحث التاسع

حكم تعلم أصول الفقه( )

بعد أن علمنا مدى الحاجة إلى علم أصول الفقه فإنه لابد لنا أن نبين حكم تعلم أصول الفقه:

إن حكم تعلم علم أصول الفقه هو الوجوب الكفائي، شأنه في ذلك شأن بقية العلوم التي يجب أن يقوم بها البعض ويسقط الحرج عن الباقين، لأن الوجوب العيني إنما يكون حيث لا حرج في فعل كل المكلفين، ومتى حصلت الثمرة بالوجوب على البعض كان في ذلك كفاية لتنظيم شئون الحياة واستقامة أمر الدنيا. فإذا كان الإنسان أهلاً للاجتهاد، كان علم الأصول بالنسبة إليه واجباً عينياً، لأنه من أهم العلوم التي يجب تحصيلها والوقوف عليها حتى يكون مجتهداً.

المبحث العاشر

مدارس أصول الفقه

الملاحظ أنه لم يختلف أحد ممن يعتبر خلافه في الأدلة المتفق عليها بين الأئمة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

وإنما الخلاف فيما زاد على ذلك وهي محل بحث ونظر بين الفقهاء.

ولكن الذي كان واضحاً أن دراسة أصول الفقه بعد الإمام الشافعي اتجهت اتجاهين مختلفين هما:

المطلب الأول: مدرسة المتكلمين( ):

وقد نهجت الاتجاه النظري في تقرير القواعد والمسائل الأصولية دون التأثر بفروع الفقه، فقد اهتم أصحاب هذه المدرسة بتحرير المسائل، وتقرير القواعد على المبادئ المنطقية، وإقامة الأدلة عليها مجردة عن الفروع الفقهية، شأنها في ذلك شأن علماء الكلام.

لذا سميت طريقتهم بطريقة "المتكلمين"، ولا يحسنها إلا من أتقن المنطق، والبحث، والمناظرة وعلى ذلك جمهور الأصوليين.

لذلك فإن أهم ما يميز هذه الطريقة، الجنوح إلى الاستدلال العقلي، وعدم التعصب للمذهب، والإقلال من ذكر الفروع الفقهية، وإن ذكرت كان ذلك عرضاً على سبيل التمثيل فقط.

المطلب الثاني: مدرسة الأحناف ( أو الفقهاء )( ):

هذه المدرسة سلكت مسلكاً مغايراً لمسلك المدرسة الأولى، حيث تقوم على تقرير القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل من الفروع الفقهية عن أئمة المذهب، حيث إن هؤلاء العلماء وضعوا القواعد التي رأوا أن أئمتهم لاحظوها في اجتهاداتهم واستنباطهم للأحكام على ضوء ما ورد عنهم من فروع فقهية.

حتى أنهم إذا وجدوا قاعدة تتعارض مع بعض الفروع المقررة في المذهب عمدوا إلى تعديلها بما يتفق والفروع الفقهية.

لذا سميت هذه الطريقة بطريقة الفقهاء، وعلى ذلك الحنفية.

ولإيضاح الفرق بين طريقة المتكلمين، وطريقة الحنفية نذكر هذين المثالين:

أحدهما:-

لبيان طريقة المتكلمين والحنفية في تقرير القواعد الأصولية، وكيف كان الأولون يعتمدون في تقريرها على الأدلة الشرعية، بينما الآخرون يعتمدون على الفروع التي نقلت عن أئمة المذهب.

ثانيهما:-

لبيان أن الحنفية كانوا بعد تقرير القاعدة يعدلونها على الوجه الذي تتفق به مع الفروع الفقهية المختلفة.

المثال الأول:

ما قالوه في سببية الوقت لوجوب الصلاة( ).

- فقد اتفق العلماء على أن وقت كل صلاة من الصلوات الخمس سبب لوجوبها واشتغال ذمة المكلف بها، وشرط لصحة أدائها، فلا تجب قبل دخوله، ولا يصح التعجيل بها قبله، ولا يجوز تأخير أدائها عنه.

- وكما اتفقوا على جواز فعلها في أية ساعة من الوقت الذي جعل لها.

- ولكنهم اختلفوا في جزء الوقت الذي يكون سبباً للإيجاب، أي علامة على توجه الخطاب من الشارع للمكلف.

هل هو أول أجزاء الوقت، أو هو الجزء الذي يتصل به الأداء؟

- فقد ذهب الجمهور ( مدرسة المتكلمين ) إلى أن السبب هو: أول أجزاء الوقت، فمتى ابتدأ صار المكلف مطالباً بأداء الصلاة المحدد لها ذلك الوقت، على أن يكون له الخيار في أدائها في أي ساعة شاء، وهذا متى كان أهلا للتكليف أول الوقت، فإن لم يكن أهلا للتكليف أول الوقت، كان السبب الجزء الذي فيه المانع، فإذا استغرق المانع جميع الوقت لم يتوجه إليه خطاب، ولم يكن وجوب.

- وذهب الحنفية: إلى أن السبب لوجوب الصلاة هو الجزء الذي يتصل به الأداء. فإن أديت الصلاة في الجزء الذي يليه كان هو السبب وهكذا، فإن لم تؤد حتى بقى من الوقت جزء لا يسع غيرها تعين هذا الجزء للسببية.

فإن خرج الوقت ولم تؤد فيه كان السبب هو الوقت كله.

الأدلة:-

- استدل الجمهور لما ذهبوا إليه بالدليل الشرعي، وهو قول الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل( ).

والدلوك هو: زوال الشمس وميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وغسق الليل ظلمته الشديدة، والصلاة التي أمر الله تعالى بإقامتها من الدلوك إلى غسق الليل هي: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، أما صلاة الصبح، فقد أمر الله تعالى بها في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْر( ) لأن معناه وأقم قراءة الفجر، والمراد بها صلاة الفجر، وأطلق عليها اسم القرآن لأنه جزء وركن لها.

فالله سبحانه وتعالى جعل الدلوك سبباً لوجوب الصلاة، وتوجه الخطاب إلى المكلف، في قوله سبحانه وتعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ ولما بينت السنة أوائل الأوقات، وأواخرها، دل ذلك على التوسيع على المكلف في أداء الصلوات.

- وينبني على هذا الأصل أن المكلف متى صادفه جزء من الوقت خلا فيه من موانع التكليف، استقر الواجب في ذمته، ووجب عليه أداؤه، وإذا لم يصادفه جزء من الوقت خالياً من الموانع الشرعية لا يجب عليه شيء.

- أما الحنفية فقد استدلوا لما ذهبوا إليه بالفروع الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب، ولم يعتمدوا على دليل من الكتاب، أو السنة، وذلك أنهم نظروا في هذه الفروع فوجدوا هذا الفرع وهو:

1- أن الشخص إذا كان مكلفاً في أول الوقت، ثم طرأ مانع من التكليف، واستمر هذا المانع حتى خرج الوقت، لم تجب عليه الصلاة المفروضة في ذلك الوقت.

2- ففهموا من هذا الفرع أن الجزء الأول من الوقت ليس سبباً؛ لوجوب الصلاة، لأنه لو كان سبباً لاستقر الواجب في ذمة المكلف بمجرد وجوده، ولا تبرأ الذمة بعد شغلها إلا بأداء الواجب أو قضائه.

3- ووجدوا أيضا أن المكلف إذا أدى الصلاة في أول الوقت، كانت صلاته صحيحة، فأخذوا من ذلك أن الجزء الأخير ليس هو السبب في وجوب الصلاة؛ لأنه لو كان سبباً لما صحت الصلاة أول الوقت، لأنها تعتبر صلاة أديت قبل وجود سببها وشرط صحتها، وهو الوقت، والصلاة لا تصح قبل وجود سببها، وتحقق شرط صحتها.

4- ووجدوا كذلك: أن المكلف إذا لم يؤد صلاة العصر حتى دخل الوقت الناقص، وهو الوقت الذي يتغير فيه لون الشمس إلى الاصفرار، ثم صلاها في الوقت الناقص كانت صلاته صحيحة مع الكراهة.

فأخذوا من هذا الفرع أن الواجب إذا لم يؤد إلا في آخر الوقت، كان آخر الوقت هو السبب لوجوب الصلاة، لأن صحة أداء الصلاة في الوقت الناقص دليل على أنها أديت كما وجبت.

5- كما وجدوا من هذه الفروع: أن المكلف إذا لم يصل العصر حتى خرج وقتها، ثم صلاها في اليوم التالي مثلاً في الوقت الناقص، لم تصح صلاته، فأخذوا من هذا أن الواجب إذا لم يؤد في الوقت، كان السبب لوجوبه هو كل الوقت، وليس الجزء الأخير منه، لأنه لو كان الجزء الأخير هو السبب بعد انتهاء الوقت لكان هناك مانع من صحة قضاء الصلاة في الوقت الناقص؛ لأن الواجب حينئذ يكون قد وجب ناقصاً لنقصان سببه فلا يجوز قضاؤه في الوقت الناقص.

فمراعاة لهذه الفروع، وليكن الأصل منطبقاً عليها، قال فقهاء الحنفية: أن السبب في وجوب الصلاة هو الجزء الأول إن اتصل به الأداء، فإن لم يتصل به الأداء انتقلت السببية إلى الجزء الذي يليه … وهكذا حتى إذا بقى من الوقت جزء لا يسع إلا الصلاة المفروضة تعين هذا الجزء للسببية، فإن خرج الوقت ولم يؤد المكلف الصلاة أضيفت السببية إلى الوقت كله.

المثال الثاني:

قرر الحنفية في أصولهم قاعدة (أن المشترك لا يعم)( ).

المشترك: هو اللفظ الذي وضع لمعنى، ثم وضع لغيره واحداً أو أكثر، كلفظ العين وضع للذهب، والعين الباصرة، والجاسوس.......

فمثل هذا اللفظ لا يصح كما تنص القاعدة أن يستعمل في عبارة واحدة إلا في معنى واحد من معانيه؟

فلا يصح أن تقول: رأيت عيناً وتريد أنك رأيت جاسوساً، وذهباً، وعيناً باصرة، ولم يرد عن إمام من أئمة المذهب أنه صرح بهذه القاعدة، وإنما أخذها علماء الحنفية من بعض الفروع الفقهية، كقولهم في الوصية: (لو أوصى شخص لمواليه، وكان للموصي موال أعلون و أسفلون، ومات الموصي قبل البيان، بطلت الوصية، فإن هذا البطلان إنما جاء نتيجة لجهالة الموصى له، وهذه الجهالة تأتى من ناحية أن لفظ الموالي مشترك بين المعتقين ( بكسر التاء )، ويقال لهم موال أعلون، وبين المعتقين (بفتح التاء)، ويقال لهم موال أسفلون، ولم يحمل على النوعين جميعاً في هذه المسألة، بل المراد منه أحدهما فقط وهو غير معلوم، ففهم العلماء من ذلك (أن المشترك لا يعم) وجعلوها قاعدة من قواعدهم الأصولية).

وعندما رأى بعض علماء الحنفية أن القاعدة بهذا الشكل لا تتلائم مع بعض الفروع الفقهية الأخرى المقررة في المذهب، كقولهم في مسألة اليمين (لو قال والله لا أكلم مولاك، وكان للمخاطب موال أعلون وأسفلون، فكلم واحداً منهم حَنِث ). فإن الحكم بالحِنْث بكلام أي واحد من الموالي لا يجيء إلا إذا كان لفظ الموالي مستعملاً في هذه الصورة في معنييه معاً، وهذا مخالف للقاعدة المقررة ( المشترك لا يعم ) إلا إذا كان بعد النفي فيعم، ولا شك أن لفظ المولى في هذا الفرع واقع بعد النفي، فلهذا صح أن يراد منه معنياه جميعاً في عبارة واحدة، من أجل هذا أكثر الحنفية من ذكر الفروع الفقهية في كتبهم الأصولية، لأنها في الحقيقة هي الأصول لتلك القواعد وإن كانوا يذكرونها على جهة التفريع والبناء على القواعد الأصولية.

المطلب الثالث: المدرسة الثالثة( ):

وهي عبارة عن طريقة جمعت بين المدرستين السابقتين، وظفرت بمزايا المسلكين، فعنيت بتقرير القواعد الأصولية المجردة التي يسندها الدليل لتكون موازين للاستنباط، وحاكمة على كل رأي واجتهاد، مع الالتفاف إلى الفروع الفقهية المنقولة عن الأئمة، وبيان الأصول التي قامت عليها تلك الفروع، وتطبيق القواعد عليها، وربطها بها، وجعلها خادمة لها، وقد اتبع هذه الطريقة علماء من مختلف المذاهب كالشافعية، والمالكية، والحنابلة، والحنفية.

وكان ذلك في القرن السابع الهجري، وأول من قام بهذه المهمة العالم الجليل مظفر الدين أحمد بن على الساعاتي الحنفي المتوفى سنة 694هـ في كتابه المسمى ( بديع النظام الجامع بين أصول البز دوي والأحكام ).

المطلب الرابع: أهم الكتب التي ألفت في هذا الفن:

الفرع الأول: الكتب التي ألفت على طريقة الحنفية ( الفقهاء )( ):

1- رسالة الأصول: للإمام أبي الحسن الكرخي المتوفى سنة (304هـ) وهي أول رسالة وضعت في أصول الحنفية.

2- أصول الفقه: للإمام أبي بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (270هـ)، وقد أكثر فيه من التفصيل والتبويب.

3- رسالة عبيد الله بن عمر أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة (430هـ)، المسماة "تأسيس النظر" وفيها إشارة موجزة إلى الأصول التي اتفق فيها أئمة المذهب الحنفي مع غيرهم، أو اختلفوا فيها.

4- وجاء بعد هؤلاء فخر الإسلام على بن محمد البزدوى المتوفى سنة (482هـ)، وألف كتابه المسمى "أصول البزدوى"، وعليه شرح نفيس لعبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة (730هـ).

5- ثم جاء أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي المتوفى سنة (490هـ)، فوضع كتابه المسمى "أصول السرخسي"، وهو كتاب مفصل موسع.

6- وجاء من بعد هذه الكتب مختصرات ومطولات أخرى، مثل كتاب المنار للنسفي، وغير ذلك من الكتب.

الفرع الثاني: أهم الكتب التي ألفت على طريقة المتكلمين( ):

ألفت الكتب الكثيرة على طريقة المتكلمين لذلك نشير إلى بعض هذه الكتب التي من أهمها:

1- كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري محمد بن على الطيب المتوفى سنة (436هـ)، وهو أحد أئمة المعتزلة.

2- كتاب البرهان لإمام الحرمين عبد الملك بن يوسف الجوينى المتوفى سنة (478هـ)، وهو من أعظم الكتب التي ألفت على طريقة المتكلمين، وعليه شروح وهي:

‌أ- شرح الإمام أبي عبد الله المازري المالكي المتوفى سنة (536هـ)، وسماه "إيضاح المحصول من برهان الأصول"، وهو مخطوط.

‌ب- كما شرحه الشريف أبو يحيى زكريا الحسني المغربي وهو مخطوط أيضاً.

3- المستصفى: لحجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة (505هـ).

فكانت هذه الكتب بمثابة القواعد والأركان لهذا العلم عند العلماء، ثم جاء بعد ذلك عالمان جليلان اطلعا على هذه الكتب فلخصها كل واحد منهما في كتاب مستقل.

أولهما: الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازى المتوفى سنة (606هـ)، في كتابه "المحصول"

والإمام سيف الدين على بن أبي محمد الآمدى المتوفى سنة (631هـ)، في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام".

ثم توالت المختصرات لهذه الكتب فقد قام العالمان الجليلان تاج الدين الأرموى، وسراج الدين الأرموى، باختصار المحصول.

‌أ- فقد اختصره تاج الدين الأرموى المتوفى سنة (656هـ)، في كتاب سماه "الحاصل".

‌ب- واختصره سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموى المتوفى سنة (682هـ)، في كتاب سماه "التحصيل".

ج- وكذلك اختصر كتاب المحصول، الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة (684هـ)، في كتاب سماه "تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول.

د- وهكذا فعل الإمام البيضاوي ناصر الدين عبد الله بن عمر المتوفى سنة (685هـ)، حيث جمع زبدة ما في هذه الكتب في كتابه المسمى "منهاج الوصول"، وهو كتاب نفيس اهتم به العلماء ووضعوا عليه الشروح والحواشي المتعددة.

ومن أعظم هذه الشروح، شرح الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوى، وعليه شرح للأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعى المسمى "سلم الوصول لشرح نهاية السول"، وشرح آخر اسمه تهذيب شرح الإسنوى للدكتور شعبان محمد إسماعيل.

 أما كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدى، فقد لخصه الإمام عثمان بن عمر بن الحاجب المتوفى سنة(646هـ) سماه "المختصر الكبير"، ثم اختصره في كتاب آخر سماه "مختصر المنتهى"، وعليه شروح وحواشي عديدة منها:

‌أ. شرح القاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المتوفى سنة(747هـ) والمسمى "التوضيح شرح التنقيح".

‌ب. شرح الإمام سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة(791هـ) المسمى "شرح التلويح على التوضيح".

‌ج. حاشية السيد الشريف الجرجاني المتوفى سنة(816هـ).

‌د. حاشية الشيخ حسن الهروي على حاشية الجرجاني.

الفرع الثالث: الكتب التي ألفت على الطريقتين( ):

أول من ألف على هذه الطريقة هو العالم الجليل مظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي الحنفي المتوفى سنة (694هـ) ألف كتابه المسمى "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوى والأحكام".

ونسج على منواله صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي المتوفى سنة (747هـ)، وسمى كتابه "تنقيح الأصول"، وقد شرحه في كتاب سماه "التوضيح"، ووضعت على هذا الكتاب الحواشي والتقريرات، كحاشية السعد التفتازاني المتوفى سنة (792هـ)، والمعروفة باسم "التلويح على التوضيح".

وجاء من بعد هؤلاء تاج الدين عبد الوهاب بن على السبكى الشافعي المتوفى سنة (771هـ)، فألف كتابه المسمى "جمع الجوامع"، وقال في أوله: "أنه جمعه من زهاء مائة مصنف"، وقد وضعت عليه الشروح والحواشي المتعددة منها:

- شرح العلامة شمس الدين محمد بن أحمد المحلي

وعليه حاشيتان:

أحدهما للعلامة البناني وبهامشها تقرير شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني والثانية حاشية الشيخ العطار، وبهامشها تقريران أحدهما للشيخ عبد الرحمن الشربيني، والثاني للشيخ محمد علي بن حسين المالكي.

وكذلك فعل الإمام محمد بن عبد الواحد الشهير بابن الهمام الحنفي، المتوفى سنة (861هـ)، فقد ألف كتابه المسمى بـ "التحرير الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية" وقد شرحه تلميذه محمد بن محمد أمير الحاج الحلبي المتوفى سنة (878هـ) بشرح سماه "التقرير والتحبير"، كما أن عليه شرحاً آخر يسمى "تيسير التحرير" للعلامة محمد أمين المعروف "بأمير باد شاه" الحنفي المذهب.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً