الخوف شعور إنساني غريزي، لا يوجد على الأرض من لا يخاف، تلك الهرمونات التي يتم إفرازها واضعة الإنسان تحت شعور العجز والفزع ليست سوى طبيعة لا يملك أمامها شيئًا، أما خبراء علم النفس فقد وصفوا حالة الخوف بأنها التمسك بالحياة، البقاء على وجه الأرض، أن لا يفقد الإنسان ما يحب أو على الأقل أن لا يتعرض لما يؤذيه.
والخوف متعدد، وما يخافه الإنسان أكثر بكثير مما يطمئن إليه، فالخوف يندرج بداية من الموت والسجن والمرض والفقر والاحتياج والشماتة، ووصولًا إلى مرض من أشياء بسيطة يُطلق عليها علميًا «فوبيا» كالخوف من الصعود إلى الأعلى أو الأماكن المغلقة أو حتى الحيوانات الأليفة وهو مرض يحتاج مريضه إلى العلاج النفسي.
لكن ماذا يحدث للإنسان أثناء حالة الخوف، سؤال آخر دفع علماء النفس إلى البحث عنه لينتهوا في النهاية إلى أنها تلك الحالة التي تجعل الإنسان لا يفكر في شيء سوى تفادي ما يخافه، كما أنها حالة مثالية من أجل الابتكار لإيجاد حلول لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها في الحالات العادية.
لكن إن كان ما سبق يتحدث عن خوف وقتي، فإن هناك الخوف طويل الأمد، ففي رواية 1984 التي كتبها الروائي الكبير جورج أويل كان الحديث دومًا عن صناعة الخوف، إيهام الناس أن هناك عدو ينتظرهم ويهدد وجودهم لمدة طويلة، وقتها فقط يمكن أن تمرر ما تشاء من قوانين وسياسات دون أن يضطر أحد لسؤالك، لا يمكن أن يفكر خائف في الرفاهية، أو يثور مرتجف كما يوضح الكاتب الإنجليزي «أويل».
هل هناك فرق بين السياسة والاقتصاد، الحقيقة لا، فالحروب السياسية هي في الأصل حروب اقتصادية، دول تريد كنوز أخرى أو إرغامها على توقيع معاهدات للحصول على مميزات، أو حرب لمنع تقدم على أخرى واختلال النظام العالمي، ظهر ذلك جليًا في حروب الكيان الصهيوني ضد مفاعلات نووية مثلًا في العراق وسوريا.
من يحسنون الظن يندهشون من أن سياسة صناعة الخوف باتت نموذج أمثل للكثير من العلماء والمراكز البحثية العلمية، وإذا كان غرض العالم الكبير ألفريد نوبل الذي اخترع الديناميت هو تسهيل حياة الناس فقط تم استخدام اختراعه في تدمير آلاف البشر، لكن المعركة باتت في تلك الأيام بين شركات الأدوية التي استغلت العلم أيضًا وصنعت تلك المرة سياسة الخوف والترهيب.
بدأت القصة حين أدركت شركات الدواء العالمية أن الأدوية لن تكون هي الحصان الأسود الذي سيفوق التجارتين الأعلى عالميًا على مدار القرن الماضي (السلاح - المخدرات) ولكن ما سيحتل المكانة الثالثة سيكون مستلزمات التجميل، وكشفت مظمة الصحة العالمية أن حجم تجارة مستلزمات التجميل التي تنتجها شركات الأدوية بلغت عالميًا في العام الجاري 170 مليار دولار، لافتة إلى أنه من المتوقع أن تصل لـ300 مليار دولار بحلول عام 2022.
منظمة الصحة العالمية أوضحت أيضًا أن نسب ارتفاع الأسعار في مستلزمات التجميل يعد الأعلى عالميًا بعد أسعار الوقود، فأسعار تلك المنتجات تضاعف سعرها مرة على الأقل على الخمسة أعوام الماضية، ناهيك عن بعض المنتجات التي تم مضاعفة سعرها بنسبة 200%، ورغم ذلك فإن نسبة المبيعات تشير إلى أن الإقبال مستمر من قبل المواطنين في كافة الدول.
تلك «التورتة» من الأموال دفعت شركات الأدوية إلى شن حرب بدأت منذ 5 أعوام لا هوادة فيها من أجل الاستحواذ على أكبر نصيب من تلك التجارة، خاصة أن كثير من الدول باتت متعددة الجنسيات، لا تقف عند حدود بعينها، ولا يهمها سياسة بلد بعينه بل أن بعض رؤساء مجالس إدارات تلك الدول باتوا هم المتحكمين في ذلك.
في تلك الحرب الضروس كل شيء ممكن حتى استخدام العلم أسوأ استخدام، ألا وهو صناعة الخوف من منتج ما، وقبل تفاصيل تلك المافيا، فخلال الأسبوعين الماضيين تم فتح قضية «بودرة تلك» جونسون للأطفال التابعة للشركة العالمية «جونسون» وذلك من خلال تحذير أمريكي أن تلك البودرة تتسبب في الإصابة بالسرطان بسبب وجود مادة «الأسستوس» التي تحتوي على جزيئات سرطانية في مكونات البودرة المخصصة للأطفال الرضع.
ورغم أن التحذير جاء من هيئة الدواء الأمريكية إلا أن السبب الأصلي فيه كان مركز «نيو ميديكال» البحثي من خلال فريق علمي أخضع عدد من منتجات «جونسون» ليظهر بتلك الحقيقة التي دفعت وزارة الصحة المصرية للتحرك لبيان خلو الأسواق من مراجعة كل أصناف بودرة التلك المخصصة للأطفال خاصة المنتج الأشهر عالميًّا «Baby Powder» الشهير والتأكد من سحب المنتج فورا وإصدار نشرة تحذيرية.
لا آثار سلبية
لكن بعد تلك الخطوة الاستباقية وبعد أيام من البحث، كشفت الإدارة المركزية للشئون الصيدلية بوزارة الصحة، أن «اليقظة الدوائية» أكدت أنه عالميًا لم تقم أي من الجهات الرقابية بسحب أي من المستحضرات المحتوية على مادة «التلك»، مشيرة إلى أن هناك منشورًا محدثًا من الـFDA هيئة الدواء الأمريكية باحتمالية وجود شوائب من مادة الأسبستوس بمادة التلك، وعليه قامت الـFDA بعمل مسح عن وجود مادة الأسبستوس بالمواد الخام أو مستحضرات التجميل المحتوية على مادة «التلك» ولم يتبين وجودها، فضلًا عن أنه عالميًا لم يتم العثور على أية معلومات تؤكد ارتباط مادة التلك بحد ذاتها في الإصابة بالسرطان وأن الأمر يتطلب المزيد من الدراسات.
ورغم براءة «جونسون» لكن التقارير الاقتصادية تشير إلى انخفاض مبيعاتها بنسبة 20% بسبب ما أثير حول المواد المسرطنة، والمثير أن تلك الأخبار تتكرر كل فترة مع عدد من الشركات، وبقى السؤال من أين تبدأ تلك الأخبار التي يثبت كذبها؟ وكانت الإجابة من مراكز الأبحاث.
جريمة العلماء
رغم المسمى الراقي وما يقدره العالم للعلماء لكن الصورة اتضحت أكثر من خلال تقارير غربية كشفت عن وجود مراكز أبحاث يتم تأسيسها من جانب عدد من شركات الأدوية ويكون مهمتها الأولى هو إطلاق مثل تلك المراكز لضرب المنافسين، وتلك المراكز منتشرة بشكل كبير في أمريكا، ويأتي على رأسها مراكز «نيو ميديكال - كاليفورنيا هيلث- نيويورك نيو» وهي كلها مراكز تابعة لشركات الأدوية وأخرجت أكثر من إشاعة ثبت كذبها فيما بعد. هذا النوع من المراكز بحسب التقارير الغربية وصل عدده في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 120 مركزًا مهمتها الأولى إطلاق الشائعات ويعمل فيها ما يقرب من ثلاثة آلاف باحث يستغلون علمهم في تدمير الآخرين، من خلال الأبحاث العلمية التي يقومون بالترويج لها معتمدين أن العلم يحتمل الخطأ وبالتالي لا عقوبة عليهم، وقد تم رصد ميزانية تلك المراكز بشكل مبدئي لتصل إلى 4 مليار دولار.
بعض شركات الأدوية التي تقوم بتصنيع مستلزمات التجميل لم تكتفي بذلك، بل بجانب تلك المراكز خصصت منصات إعلامية لها تحت مسمى «مواقع طبية» لتقوم بنشر الأبحاث لتي تريد ضرب المنافسين بها، وبالتالي يصلون إلى أكبر قدر من الجمهور للتأثير على القوة الشرائية لمنتج ما، بالإضافة إلى بعض الصحفيين الممولين من شركات الأدوية لتمرير هذا النوع من الأبحاث تحديدًا في وسائل الإعلام التي يعملون بها.
فزاعة السرطان
سياسة التخويف يلزمهًا أيضًا فزاعة يخشاها الإنسان، وفي ظل وصول عدد المصابين بمرض السرطان إلى 14 مليون حول العالم بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية للعام الجاري فإن باحثي تلك المراكز العلمية المشبوهة اختاروه ليكون هو فزاعتهم، فباتت كل مادة قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، وشملت المواد التي وقعت تحت هذا المسمى إلى أكثر من ألف مادة في 100 منتج، وثبت بعد التحليل أن جميع المنتجات لا تؤدي إلى السرطان ناهيك أن عدد من الأبحاث العلمية التي أجرتها جامعات عالمية مثل هارفارد، أشارت إلى أنه حتى الآن لا يوجد سبب مباشر ودقيق للإصابة بالسرطان وإنما الأمر مجموعة من الأسباب.
دول مستقبلة
الدكتور محمود فؤاد مدير مركز الحق في الدواء، يكشف في حديثه لـ«أهل مصر» أن المشكلة الحقيقية أن دول العالم الثالث وعلى رأسها مصر هي دول مستقبلة للأدوية وليست مصنعة لها إلا بقدر يسير وبالتالي هي الضحية الأولى في لعبة مراكز الأبحاث التي تستخدم العلم في تضليل المواطنين من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية.
وأضاف «فؤاد» أن المشكلة الحقيقية أن ضحايا تلك الأبحاث الكاذبة وصل عددهم لأكثر من مليون مواطن تضرروا، والضرر هنا ينقسم لنوعين، فبعض الأبحاث تحذر من مستلزمات تجميل أو أدوية متاحة بالسوق لكن حين يفقد المريض الثقة فيها فإنه يتخلى عنها وقد لا يجد البديل في بعض الأوقات، أما الضرر الثاني فهو وجود بديل في الغالب يكون أعلى سعرًا من الطبيعي وبالتالي يقع الضرر الاقتصادي في تلك الحالة.
إجراءات مصر
محمد سعودي وكيل نقابة الصيادلة السابق، يوضح أن وزارة الصحة ليست إلا متلقي لمثل تلك النشرات، فمسار تلك الشائعات تتمثل أولًا في إطلاق الشائعة من خلال مركز الأبحاث ثم نشره في وسائل الصحف، وبحسب القوانين الدولية فإن الهيئات الحكومية مسئولة عن بحث ذلك كما قامت هيئة الدواء الأمريكية بفحص شكوى «بودرة جونسون» وأثناء مرحلة البحث يتم إبلاغ كل الدول بذلك.
ويتابع أنه في مصر نستقبل تلك الإنذارات ونقوم بإجرائين الأول خطوات استباقية من خلال تقليل ضخ المنج في الأسواق والاكتفاء بالموجود، بالإضافة إلى متابعة ما تتوصل إليه التحقيقات العالمية ولكن في كل الأحوال نبقى مستسلمين للأمر حتى يفصل فيه خارجيًا.
نقلا العدد الورقي.