أصوات طرق ونشر، ورائحة دهانات وتنر، وتتناثر على الأرض نشارة خشبية، وقطع خشب قديمة. كل ذلك ستجده أمام ورشة المراكب القديمة، أمام قلعة قايتباي، بمنطقة الأنفوشي بمدينة الإسكندرية، حيث يوجد أمامها عشرات المراكب المتراصة على شاطئ البحر المواجه للورشة، ملونة ومختلفة الأحجام والأشكال.
ورشة مراكب الأنفوشي من أقدم ورش صناعة المراكب في العالم، حيث أنشأها محمد علي باشا، والي مصر، عندما قرر تأسيس أول أسطول بحري، واختار الإسكندرية كأهم مدينة ساحلية، حيث يختلط بها أجناس مختلفة مع أهلها، وتختلط مهارة المصري وإبداع الأجنبي، وكانت توجد قديما بالقرب من قصر رأس التين، إلا أن الملك فاروق كان ينزعج في قصره من ضوضاء العمال وأدواتهم، فقرر نقلها إلى منطقة الأنفوشي.
◄التراخيص أزمة العمال
أصدر محافظ البحر الأحمر الأسبق، القرار رقم 222 لعام 2004، بوقف إصدار تراخيص إنشاء لإنشات سياحية جديدة للسفن التي تعمل بالبحر الأحمر، مما تسبب في بالضرر على صناع صناع السفن وأصحاب الورش التي كانت تصدّر أعمالها إلى محافظة البحر الأحمر، وكانت المكان الرئيسي لبيع منتجات صناع الأنفوشي، وجعلهم يفقدون أهم مصدر رزق لهم.
يقول "العم عبده" 85عامًا، وهو من أكبر العاملين بالورشة، أنه قبل هذا القرار كانت الورشة تصنع مراكب كثيرة، قد تصل لـ 20 مركب سنويًا، ولانشات سياحية، وتصدرها لمدن البحر الأحمر، مثل الغردقه، وشرم الشيخ، وغيرها، والتي تعتمد على السياحة، وبعد القرار قل إنتاج الورشة حتى يكاد ينعدم، وأصبح الإنتاج مقتصر فقط على مراكب النزهة.
ويضيف أن المحافظة رفعت سعر الرخصة، حتى تصل إلى 200 ألف جنيه، يلجأ الكثير لصيانة مركبه القديم، أو شراء ترخيص قديم لمركب غارقة، أو مُكهنّة، وبالتالي بعد أن كانت تنتج الورشة 20 سفينة سنويا، أصبح العمل مقتصر على 5 سفن يتم صيانتها فقط.◄غلاء الأسعار يغرق الورشة في بحر الركود"كل الحاجات غالية" هكذا قال المعلم مصطفى صاحب أحد المراكب المُصانة بالورشة، حيث يقول أن "رفع المركب من الماء إلى الورشة وإنزالها يتم برسوم للمحافظة مقدراها 55 جنيه في كل مرة! وهذا يشكل عبئًا على صاحب المركب، بالإضافة إلى أن كل قطعة في المركب سعرها تضاعف بشكل جنوني، فبعد أن كان يرفع المركب شهريا لصيانتها، أصبح يتركها في البحر 3 أو 4 أشهر، حتى يقلل من تكلفة الرفع والإنزال.
ويضيف الحاج "إبراهيم" أحد صنايعية الورشة: "رفع الأسعار أدى إلى تراجع معدلات الصيانة، وأثر سلبا على دخلنا، خاصة بعد ارتفاع أسعار الخامات، فمثلا بعد أن كان المتر المربع من الخشب المستورد يتراوح سعره من 600 إلى 1000 جنيه، أصبح سعره 7000 جنيه، بالإضافه لزيادة سعر المسامير المعدنية، وقطع الغيار الاصلية بالموتور، والمروحة والماكينة.
◄الإسكندرية عاصمة اليخوت الخشبية تقتلها الهجرة
اشتهرت عروس المتوسط بين الدول المطلّة عليه، بصناعة اليخوت الخشبية، والتى تفوقت فيها، وتميزت عن نظيراتها في اليونان وتركيا، والتى تقتصر هذه المدن على صناعتهم فقط، ولكن اندثرت هذه الصناعة لعدة أسباب لعل أهمها هجرة الصناع المهرة خارج مصر، للعمل في دولة أجنبية كالإمارات واليونان وتركيا وإسبانيا والمغرب.
يقول"أشرف عبده" 52 عام، أحد صنايعية الورشة: قديمًا كانت تعج الورشة بالعمال، وكانوا بحاجة دائمة لزيادة عددهم، ويأتون بالصغار لتعليمهم، إلا أن بعد تردي الأحوال، اتجه الكثير من المهرة إلى البحث عن عمل في الخارج، والفرار من انخفاض مستوى الدخل بالبلد". ويضيف: "إنهم يفضلون الغربة لارتفاع الدخل، والتأمين، والمعاملة الحسنة، والبيئة الصحية للعمل".◄انعدام التأمينات.. والأسر تتشرديقول "السيد" أحد نقاشين المراكب، أن العمال بالورشة ليس لديهم الحق في التأمين، سواء الصحي أو الاجتماعى، ومن يصاب في أثناء أداء عمله لايجد من يمد له العون بالعلاج، أو حتى يعين أسرته، التي تتشرد بعد أن يصبح ربها قعيد الفراش، ويضيف أن كثيرا من زملائهم فقدوا مصدر رزقهم بسبب إصابات بالغه الخطورة.
ومنا ناحية أخرى وصف "السيد" عمله بالبالغ الخطورة، لأنهم أغلب الوقت يتعاملون مع معدات وأدوات ثقيلة، ومواد حارقة، بل ويعملون عل أسطح اليخوت والمراكب، وهي مرتفعات عاليه جدا، وكثيرا ماتشهد أرض الورشه سقوط العمال من أعلى المركب على الأرض.
ويضيف "أشرف" أحد العمال، كان من أمهر الصناع، إلا أنه أصيب منذ 13 عامًا، بتهتك في النخاع الشوكي، إثر سقوطه من أعلى سفينة كان يشارك في صنعها، ومن يومها وهو قعيد الفراش، لا يستطيع الحركه، وتحملت عائلته وأبناؤه تكاليفَ علاجه كاملة، وبالرغم من سعي الأسرة للحصول على فرصة لعلاج أخيه على نفقة الدولة، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل.