كانت مدينة "سبها" والجنوب الليبي مكاناً لقوافل المهاجرين والمهربين الذين يأتونها من جنوب الصحراء طوال السنوات الماضية التي اعقبت ثورة الربيع العربي في ليبيا، ولكن مع دخول الجيش إلى المدينة في عملية تحرير الجنوب، التي بدأت في 17 يناير الماضي، تأثرت حركة المهاجرين في شكل مباشر بالوضع الأمني الذي تحسن أخيراً في المدينة وضواحيها.
وقالت صحيفة الأندبندنت أن مجال "تهريب المهاجرين" لم يعد مثل سابق عهده بعد دخول الجيش، فخط سير المهاجرين يمر من القطرون في أقصى الجنوب الليبي ومنها إلى "سبها"، وهنا يظل المهاجرون فترة من الزمن قبل أن يُرحلوا شمالاً، في رحلات يجنوا من ورائها سماسرة المهاجرين 300 دينار (120دولاراً أميركياً) للفرد الواحد، ولكن مع وصول الجيش وسيطرته على العديد من النقاط المهمة في الطريق، أصبح من الصعب أن نضمن تدفق المهاجرين كما نريد.
بدأ الجيش منذ دخوله "سبها" في تفعيل عديد المؤسسات الإدارية التي ظلت سنوات معطلة من العمل، من بينها جهاز مكافحة الهجرة الذي توقف منذ العام 2014، إذ دعت القوات المسلحة أفراد هذا الجهاز إلى العودة إلى عملهم من جديد، وهو عمل يشمل ضبط واحتجاز وترحيل المهاجرين الذي يدخلون البلاد في شكل غير قانوني، لأجل ذلك تتوافر لديه مراكز إيواء تستطيع ضم أعداد كبيرة منهم، وبالتالي سيضطر هؤلاء إلى الاختباء بعيداً من أنظار دوريات هذا الجهاز، ولن تنطلق قوافلهم إلى "سبها" بالدرجة نفسها من الأريحية التي كانت تصل فيها إلى المدينة من قبل.
كما ان سائقو السيارات الصحراوية يضيق عليهم الخناق كل يوم بسبب دوريات الجيش التي تنزع تعتيم الزجاج وتطالبهم دوماً ببيانات أوراق مُلكية سياراتهم، حتى أصحاب بيوت الدعارة التي يقوم نشاطها على المهاجرات تعيش أوقاتاً عصيبة، وصار المهاجرون لا يرتادونها بالزخم نفسه، وهو ما يهددها بكساد لم تعرفه منذ أكثر من ثماني سنوات، إضافة إلى أصحاب المحلات التجارية التي كثرت في أماكن إقامة المهاجرين، والتي أيضاً خفّت حركتُها وضعفت القوة الشرائية لديها في شكل ملحوظ.
جعل من هذه المناطق غير آمنة لعبور قوافل المهاجرين، ولم يتبق أمام هؤلاء إلا الطريق الغربية الآتية من جات (500 كم جنوب غرب سبها)، وهي طريق آمنة من الاشتباكات غير أن دوريات الجيش تجوبها في شكل مكثف، وهو واقع جديد يجب أن تعتاده قوافل المهاجرين وتتعايش معه.
يقول عبد السلام أحمد وهو سائق ينقل المهاجرين عبر هذه الطريق، إن التغيير الأخير طبيعي، ويجب ألا يقلق منه المهربون ومَن في حكمهم، فقد كان الجميع يعملون منذ أيام القذافي على الرغم من القبضة الأمنية الشديدة، فلا مفر من الاعتياد على الحالة الجديدة، يقول عبد السلام "علينا أن ننسى تلك الفترة من الازدهار التي عشناها منذ العام 2011 وحتى دخول الجيش، هذا التعايش مع الوضع الجديد خيار متاح الآن قد لا يتوافر مستقبلاً، خصوصاً إذا ما نجح الجيش في حسم معارك الجنوب".
بطبيعة الحال، لن يستطيع أحد إيقاف الهجرة إلى أوروبا عبر ليبيا، فهي تجارة عالمية أكبر من ليبيا ومن مهربيها وأجهزتها الإدارية والمحلية، خصوصاً أن البلاد تعيش حالة من الانقسام، حتى في عزِّ أيام حكم القذافي فإنه لم يستطع إيقافها نهائياً، بل استغلها في أواخر حكمه كورقة للضغط على أوروبا، اليوم، ومع ظهور الجيش في مشهد الجنوب الليبي أكبر معاقل الهجرة، أصبح لزاماً على الجميع السعي إلى وضع آلية عملٍ تفضي إلى ضبط هذا الملف ومعالجته.
يقول الناشط المدني أحمد الفرجاني، يقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني عبء التوعية في مجال الهجرة، والتي تقوم على أساس توفير سبل حياة صحية جيدة للمهاجرين طوال فترة وجودهم حتى يتمّ البت في أمرهم، ومساعدة أجهزة الدولة على حصرهم والتواصل مع بلدانهم لبحث مصيرهم وكيفية عودتهم، وإلى أن يحصل ذلك، يجب أن يعيشوا في أوضاع إنسانية جيدة لا تدفعهم إلى امتهان الجريمة والدعارة أو الانجرار إلى الجماعات المسلحة.
ويمر ملف الهجرة إلى أوروبا عبر الجنوب الليبي بمرحلة دقيقة، ستكون ذات أثر كبير في حجم الهجرة وما يرافقها من أحزان يعيشها هؤلاء دوماً، ولعل القوات المسلحة أصبحت تدرك ذلك، ما قد يدفعها إلى ممارسة المزيد من الضغط على أرباب هذه التجارة في الفترة المقبلة، بعد انتهاء عملياتها العسكرية وإحكام سيطرتها على الحدود الليبية في الجنوب.