المشهد لم يختلف في رحلة العودة عن لحظة المغادرة الأولى، مئات المنتظرين، أحمال ملقاة على الرصيف، خطوات تهرول بمجرد سماع صافرة القطار، أطفال يسحبهم أباؤهم أو يدفعوهم - حسب موقعهم من الباب- فقراء ومتوسطي العيش يمكنك ملاحظتهم من ملابسهم، حديثهم، ونظراتهم، تختلف رحلتهم تلك المرة عن كل سفر، فهذه أجازة العيد، في قطار يجمع ما لا يمكن لعقل تخيله.
ولأن لكل شجرة متفرعة جذور تمتد لمسافات بعيدة من نقطة منشأها، ولكل مغترب طريق للعودة إلى بلده الأول، على أرصفة محطة القطار، وبمواقف الأتوبيسات، تلمع تلك اللمعة في عيونهم، منتظرين بفارغ الصبر دوار العجلة لتبدأ رحلة العودة إلى نقطة البداية، والوطن الأصغر في حياتهم، ليروي جفاف الحنين، بعد اغتراب سببته لقمة العيش، ليحط بعائلته الصغيرة في قاهرة المعز، أو ليبني أحلامًا لتكوين أسرة، منتظرًا موسم "الزيارات" ليعود لأحضان "قرية" تربى فيها – رغم اعتقاده أنه كرهها- أو أنها كرهته لكنه يشتاق إليها.
"عم سيد" رجل بلغ الستين، قضى منها 35 عامًا بعيدًا عن بلده الصغير، تاركًا خلفه أمه وإخوته من أجل لقمة عيش في "مصر" – كما يسميها الفلاحون- ورغم 35 عامًا لم ينسى إحساس العيد في بلده الصغير، يقول "عم سيد" :"كل سة لازم أحضر العيد في بلدنا في المنيا، مبحسش بالعيد غير وسط أهلي، رغم أني أمي ماتت لكني بشم ريحتها في المكان".
مضيفًا: "أكتر حاجة بحسها صلاة العيد، وسلامنا على الناس اللي بيحبونا بصدق، العيلة الكبيرة والقرايبظ، مينفعش ييجي عيد وانا مش في البلد مهما كان السفر هيتعبني وأنا في السن ده... بس أهلنا يستاهلوا".
صغير لكنه "لمض" هكذا وصفته والدته، "محمد" طفل في العاشرة من عمره، يمسك بيدي أخته راكضين على رصيف المحطة ذهابًا وإيابًا، منتظرين بشوق قطار الصعيد.
يقول محمد، نسافر كثيرًا إلى أسيوط وسوهاج، فأسيوط بلد أمي وسوهاج بلد أبي، لكني أنتظر زيارة العيد، لأرى أقاربنا، وألعب مع أولاد العائلة، فنحن نتجمع كل عيد في منزل جدي الكبير".
تلتقط حبيبة طرف الحديث:"عمي عايش في اسكندرية، مش بنشوفهم غير في العيد، لما بينزل في بيت جدي".
في حديث جانبي يأخذ الأخوين الصغار، تقول حبيبة، إن الحياة في القاهرة مختلفة عن الصعيد "شوية" لكني أحب العيد في البلد.
على مقربة من الرصيف، يقف شابًا في مقتبل الثلاثين، يستند إلى حقيبته منتظرًا هو الآخر، تحدث وكأنه ينتظر حدثًا جليلًا، يتعبه الزحام ويكره "الفوضى" التي تجوب المحطة تلك الليلة، خاصة ليلة العيد، فالجميع يتسابق كي يحجز لنفسه موقع قدم بالقطار، ليلحق آخر موعد يمكنه من اللحاق بـ"العيد" في بلده، والأعياد في بلاد الأرياف، تنتهي بصلاة الظهر، ليعود كل إلى عمله.
"شريف" يحب الحياة في القاهرة، لكن لا يمكنه قضاء العيد "وحده"، فالعيد لمة وتفاصيل وذكريات طفولة، يتم استرجعها في مثل تلك المناسبات، على حد وصفه.
يقول شريف: "أنا عايش في القاهرة، وشغلي وحياتي كلها هنا، من كذا سنة، لكن ولا سنة قدرت أحضر العيد لوحدي، لازم أعيش العيد في البيت بتاع العيلة، أخويا بينزل من برة مخصوص علشان يحضر معانا العيد، البيت بيبقى ناقصه حاجة لو حد لسه موصلش لغاية الوقفة وفيه احتمال ميحضرش العيد وسطينا".
وأضاف "شريف" :"مش بس الاخوات، الحنين لكل حاجة في البلد، الصحاب القدام، والناس الحلوة اللي شغلتها الدنيا، والعيلة وولاد العم، والحكاوين كل دي حاجات بتوحشنا وبنستنى لمة العيد علشان نرجعها".
"الأجازة يومين لكن لمته متتعوضش.. بس الهم الكبير في الرجعة لمصر" هكذا تحدث "سيد، بأنه يبلغ من العمر 40 عامًا، وأنه قبل أن ينزل إلى بلده يحمل هم العودة، فالقطارات تحمل الركاب أعباءً كثيرة، فوق ما تحمله أذهانهم من تفاصيل المعيشة.
وأضاف "سيد": "القطر بيلمنا ويمكن علشان احنا فقرا منقدرش نركب القطر الغالي فبنركب القطر العادي اللي كان بفلوس قليلة.. هم غلوه شوية- بس اهو برضه رخيص، وعلشان كده بنتحشر فيه، بنركب وخلاص ولو الواحد هيقف حتى على رجل واحدة، بس لازم نرجع علشان أكل العيش".
على مقربة من باب عربة القطار، وخلف زحام الركاب المتهافتين عليه، تقف سيدة وأربعة أطفال، تدفعهم واحدًا تلو الآخر، ليدخلوا العربة قبل ثوان من تحرك القطار مغادرًا المحطة، تتجول وأبنائها داخل العربة بنظرهم بحثًا عن مكان، وتبوء محاولاتهم بالفشل، فتأخذ مكانًا بهم بجوار الباب بأرض القطار، وتنضم إليها سيدة أخرى لكنها ذات شكل مختلف يبدو عليها أنها من فئة اجتماعية أحسن حالًا، حتى تبدأ أم الأولاد الأربعة في سرد قصتها، قبل أن يشاركها الجميع.
"أم أحمد" هكذا عرفها الركاب من اسم ابنها الأكبر، قالت : "أنا قررت أمشي واسيب البيت وهنزل على مصر علشان جوزي يتربى" بعد أن سردت قصة ضربها ومعايرات زوجها لها، وتفاصيل كثيرة من رحلة كفاحها معه على حد وصفها، ورغم كل ما قالت لم تغادر أم أحمد القطار عند وصوله محطته الأخيرة، وربما اتخذت منه ملاذًا، أو أنها ستفكر في العودة مرة أخرى، ليشهد القطار رحلات كثيرة بتفاصيل أحيانًا يتشاركها الركاب مع بعضهم وآخرين يكتفون بقصها للطريق.