كعادتها، لم تنج أفريقيا من براثن الفساد الذي طالما لاحق بعض سياسيها ورجالها ومسئوليها... فلم تفلت القارة السوداء من عاصفة "أوراق بنما" التي طالت عددا من قيادات القارة ورؤسائها وأقاربهم وسياسيها ورجال أعمالها وغيرهم من النافذين.
فـ"أوراق بنما" التي أماطت اللثام عن بيانات مصرفية وتعاملات مشبوهة، ووصفت بأنها أكبر تسريبات فساد في التاريخ، كشفت عن ضلوع أكثر من 143 سياسيا في أنحاء العالم، من بينهم 12 رئيس دولة، في ممارسات مشبوهة باستخدامهم حسابات سرية في الخارج بحثا عما يقال إنها "ملاذات ضريبية آمنة"، وهو الاصطلاح المخفف الذي تورده وسائل الإعلام العالمية للتعبير عن "التهرب الضريبي وغسيل الأموال وإخفاء الأموال المنهوبة من الشعوب".
وتضمنت "أوراق بنما" الجهنمية عددا من القادة الأفارقة وأقاربهم منهم ابن شقيق رئيس دولة جنوب أفريقيا، جاكوب زوما، والأخت التوأم لرئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، جوزيف كابيلا، والمحافظ السابق لولاية دلتا النيجيرية الغنية بإنتاج النفط، والذي يقضي فترة عقوبة في السجن، ووزير البترول في دولة أنجولا، ثاني أكبر منتج للنفط في القارة بعد نيجيريا.
ويعلق ستانلي أشنو، مدير العمليات في مؤسسة "بادجيت"، وهي منظمة مدنية تعمل في مجال تبسيط الموازنة الفيدرالية النيجيرية أمام الرأي العام ورجل الشارع العادي في نيجيريا، على ما ورد بـ"أوراق بنما" بقوله إن استخدام التسهيلات خارج الحدود ليس جريمة في حد ذاته، غير أن التسريب الأخير يؤكد أن الأفريقيين باتوا يعرفون أيضا كل السبل التي يستخدمها قادتهم، والتي يستغلون هذه الحسابات المصرفية خارج الحدود لإخفاء المال العام المسروق من دولهم.
ويضيف أشنو "الأمر ليس جديدا، فالتسريبات وما تضمنته هى أشياء نعلمها على الدوام. لكن المثير هنا أنه أصبحت لدينا أوراق قضية تدعم الأشياء التي كنا نسمعها في الماضي".
وهناك أيضا اسم جيمس إيبوري، الحاكم السابق لولاية دلتا الغنية بالنفط خلال الفترة من 1999 إلى 2007، والذي أصدرت بحقه محكمة لندن في عام 2012 حكما بالسجن باتهامات التآمر والمشاركة في تهم بالاحتيال وغسيل الأموال. وقد اعترف إيبوري باستغلال منصبه الرسمي كحاكم ولاية دلتا النيجيرية للحصول على أموال دون وجه حق وتحويل ما يقرب من 76 مليون دولار خارج نيجيريا عبر شبكة من شركات الأفشور، على الرغم من أن السلطات النيجيرية تتهمه بالاستيلاء على أكثر من 250 مليون دولار.
وقد حكم على إيبوري بالسجن 13 عاما.
ويؤكد أشنو أن المعلومات المسربة الأخيرة في أوراق بنما ستعزز من جهود الرئيس النيجيري، محمد بخاري، الرامية إلى استعادة الأموال العامة المنهوبة من بلاده.
وتابع قائلا: "سيؤكد ذلك صدق ما قاله خلال الأشهر الأخيرة حول المبالغ الهائلة من الأموال التي نهبت من خلال مسئولين منتخبين ومعينين. أعتقد أن هذا التسريب سيقدم دليلا إضافيا لجهود مكافحة الفساد".
كما ألقت أوراق بنما الضوء على أسماء أفريقية أخرى من بينها شقيق زوجة رئيس جنوب أفريقيا، جاكوب زوما، وقد أدرج ابن شقيق زوما، واسمه خولوبيوس زوما، كممثل لشركة "كابريكات ليمتيد"، وهى إحدى شركتي أوفشور متهمتين بالحصول على صفقة آبار نفطية في جمهورية الكونغو الديمقراطية بقيمة 8ر6 مليون دولار في عام 2010. وشركة "كابريكات" مسجلة في "فيرجين أيلاند" البريطانية، وهى إحدى الجزر الشهيرة والرئيسية التي تستخدم كملاذات ضريبية آمنة (الأوفشور) والتي ورد ذكرها بقوة في "أوراق بنما".
ونفى المتحدث باسم خولوبيوس زوما، فويو مخيزي، الاتهامات الواردة في "أوراق بنما" قائلا "إن خولوبيوس ليس لديه حسابات أوفشور حاليا ولم يمتلك أي حساب مصرفي أوفشور في الماضي"، مؤكدا أن ما قالته "أوراق بنما" تفترض ببساطة أنه كان مشاركا مع "كابريكات"، التي كانت عبارة عن سجل عام.
وقد خرجت التسريبات الأخيرة في وقت يمر فيه الرئيس جاكوب زوما بأوضاع لا يحسد عليها، إذ من المقرر أن يفتح البرلمان الجنوب أفريقي استجوابا مدعوما من تيار المعارضة في البرلمان يدعو إلى عزل زوما لانتهاكه الدستور.
وكانت محكمة جنوب أفريقيا الدستورية قالت في حكم لها إن زوما "عجز عن التمسك بالدستور والدفاع عنه واحترامه"، بفشله في رد بعض الأموال العامة التي استخدمها لإجراء بعض الإصلاحات في منزله الخاص.
ورد زوما في خطاب متلفز للأمة بأنه "لم يسع أبدا، بقصد أو بدون قصد، إلى انتهاك الدستور الذي يعد أعلى تشريع في الجمهورية". ويعتقد أشنو أن مصير زوما بات رهنا للوقت الذي سيقرر فيه مواطنو جنوب أفريقيا ما الذي يفعلونه مع رئيسهم.
ويدلي، مدير العمليات في مؤسسة "بادجيت"، ستانلي أشنو، بدلوه في الشأن الجنوب أفريقي مؤكدا أن المسألة أبعد من كونها شأنا محليا بل يصل إلى أبعد من ذلك قائلا "من وجهة نظري، إن الأمر لا يقتصر على كونها جنوب أفريقيا في حد ذاتها. فإن الأمر يتعلق بالدور الذي تلعبه جنوب أفريقيا في قارة أفريقيا بأسرها، بوصفها واحدة من الدول الكبرى في القارة والتي تحل ثانيا بعد نيجيريا. فجنوب أفريقيا لن تستطيع تحمل أن يكون رئيسها ملوثا ومحاطا بالفضائح من كل جانب".
وسلطت تسريبات بنما الضوء على ثروة جانيت ديزيريه كابيلا، الأخت التوأم لرئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، جوزيف كابيلا.
وجانيت عضوة في البرلمان الكونغولي منذ عام 2012، وتتهمها الأوراق المسربة بأن لها صلة بشركة "كيراتسو" القابضة المحددودة، وهى شركة مقيدة في جزيرة نيوي بالمحيط الهادي منذ يونيو 2001، أي قبل شهور من تولي شقيقها رئاسة البلاد بالانتخاب. ولم تصدر أي تعليقات من الرئاسة الكونغولية على ما ورد من معلومات في "أوراق بنما".
وجدد أشنو تأكيده أن مسألة استخدام حسابات الأوفشور لا تعني ملاذات آمنة وتهربا ضريبيا فحسب قائلا "لن أقلل من شأن البيانات التي سربت كونها تهربا ضريبيا فحسب، ففي أفريقيا، فإن الأمر ينسحب أيضا على أناس يرجح ضلوعهم في نهب أموال عامة، ولايستطيعون تبرير حيازتهم لها في ضوء دخولهم العادية التي يحصلون عليها من توليهم مناصب في الحكومة، لذا يلجأون إلى إخفاء أصولهم وثرواتهم عبر شركات الأوفشور".
ومن الأفارقة الآخرين الذين وردت أسماؤهم في تسريبات بنما يأتي نائب وزير العدل الكيني، كالبانا راوال، والسيدة مامادي توري، أرملة الرئيس الغيني السابق، لانسانا كونتي.
وكانت مجلة "نيوزويك" الأمريكية قد ذكرت في مقال لها أن السلطات الأمريكية تتهم السيدة توري بأنها تلقت مبلغا 3ر5 مليون دولار في صورة رشاوى لمساعدة شركة مناجم للحصول على حقوق تنقيب في أغنى دولة في العالم بثروات خام الحديد.
ويقال إن السلطات الأمريكية قامت عام 2014 بحملة مداهمة لمنزل السيدة توري في فلوريدا، وقامت بمصادرة ممتلكات خاصة بها وتجهيزات مطعم ومعدات تصنيع أيس كريم يزيد إجماليها على مليون دولار.
وعاودت "أوراق بنما" تسليط الضوء على ابن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، متهمة إياه باستخدام شركات الأوفشور لإخفاء أموال مشبوهة المصدر.
وتقول مجلة النيوزويك في تقرير لها عن تلك المسألة إن الشركة السويسرية التي تحمل اسم "كوتيكنا"، وظفت كوجو عنان في عام 1995 للعمل في نيجيريا، وبحلول عام 1998 أصبح مستشارا لشركة "كوتيكنا"، وبعد شهور من توليه هذا المنصب منحت الشركة عقدا، في إطار ما كان يعرف ببرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق، وهو ما يثير شبهات تربح وعدم نزاهة. وكانت لجنة تحقيق مستقلة قد أجرت تحقيقاتها بشأن البرنامج، بما فيه الاتهامات التي وجهت لكوجو عنان، وقد أصدرت تقريرها عام 2005، الذي برأ ساحة كوجو ولم تعثر على أي دليل إدانة يقول إنه استخدم صلاته العائلية للتربح من البرنامج.
وانتقلت "أوراق بنما" إلى وسط القارة وشرقها مشيرة إلى ستيوارت كيربي رئيس محكمة الاستئناف في بوتسوانا، وسفير زامبيا السابق لدى الولايات المتحدة أتان شانسونجا. وتتواصل ردود الأفعال بشأن تسريبات بنما التي كشفت عن معلومات لازالت أصداؤها تتردد في أنحاء متفرقة لتطال مزيدا من السياسيين وأقاربهم في قارات العالم المختلفة من الباحثين عما يطلق عليه "ملاذات آمنة" لأموالهم المنهوبة.