لم تحدث كواليس خطاب رئيس اركان الجيش الجزائري "أحمد قايد صالح" دفعة واحدة، في يوم الثلاثاء 26 مارس الجاري قبل ساعات من الخطاب الذي دعا فيه إلى تنحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لأسباب صحية، وتفعيل المادة 102 من الدستور، وصلت مجموعة من موفدي الجيش إلى مقر الرئاسة الجزائرية في "قصر المرادية"، مهمتها هي "وساطة الفرصة الأخيرة"، لإقناع المقربين من الرئيس الخروج بشكل مشرف من خلال رسالة استقالة يعلن فيها بوتفليقة تنحيه لأسباب صحية.
وجاءت تلك الفكرة بعد أسبوع من الخلاف بين الرئاسة وقيادة الجيش خاصة بعد التضارب الذي خرج إلى العلن، يوم الاثنين 18 مارس الجاري، حين كُشف عن رسالة نُسبت إلى بوتفليقة جددت تمكسه بالبقاء في الحكم خلال فترة انتقالية طويلة تمتد لأكثر من سنة، فيما ألقى رئيس الأركان خطاباً تعهد فيه بإيجاد "حل سريع للأزمة"، استجابةً لمطالب الشعب.
وكشفت صحيفة الجزائر اليوم بنسختها الإنجليزية أن هناك خلافاً سرياً بين أنظمة الحكم في الجزائر منذ 3 أسابيع، كما أن التظاهرات التي اشتعلت يوم 15 مارس الجاري أحدثت أنقاسمات في الداخل الجزائري.
الضباط الناقمون
الضابط الناقمون كما تم تسميتهم حذروا رئيس الاركان من خداع يمكن أن يلجأ إليه "الشلة الرئاسية" كما يطلق عليهم، عبر افتعال مظاهرات مؤيدة للرئيس، بهدف وضع الجيش أمام المتظاهرين،الأمر الذي تريد قيادة الجيش تفاديه بأي ثمن، خوفاً من أن تجد نفسها أمام وضع من التمرد يصعب التحكم فيه.
سعيد بوتفليقة يصدر رسالة باسم شقيقه
لاقت الفكرة قبولاً من قبل الرئيس بوتفليقة، لكن مستشاري رئيس هيئة الأركان فوجئوا صباح الاثنين 18 مارس، بينما كانوا مجتمعين على وضع اللمسات الأخيرة على خطاب كان قايد صالح يستعد لإلقائه ليحضر الرأي العام للإعلان الرئاسي المرتقب في اليوم التالي، بنشر سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري ومستشاره الأقرب، رسالةً باسم الرئيس جدد فيها تمكسه بالبقاء في الحكم سنة إضافية بحجة الإشراف على الفترة الانتقالية.
ووجد رئيس هيئة الأركان نفسه بين نارين، تعنت "الشلة الرئاسية" وتمسكها بالبقاء في الحكم بأي ثمن من جهة، والنقمة المتزايدة في قيادة الجيش، تحت تأثير ضغط الشارع من جهة أخرى. وحرصاً منه على تماسك المؤسسة العسكرية، لم يجد قايد صالح بداً من معارضة بوتفليقة علناً في الخطاب الذي ألقاه في 18 مارس، بعدما بقي وفياً له منذ أن عينه قائداً للجيش في العام 2004.
مساعدة بوتفليقة ليموت رئيساً
توجه وفد من كبار الضباط إلى قصر الرئاسة لم يكن الهدف هذه المرة القيام بأي وساطة، بل مطالبة سعيد بوتفليقة، باستقالته الفورية من كل مناصبه الرسمية، وأضافت الصحيفة أن تلاسناً حاداً حدث خلال اجتماع وفد الجيش بشقيق الرئيس، مما دفع أحد الضباط إلى مخاطبته بلهجة عاصفة.
"حرب إلكترونية" بإشراف ابن شقيقة بوتفليقة
ساد انطباع بأن التجاذبات بين قيادة الجيش والحلف الرئاسي عادت إلى الهدوء، لكن لم تمر ثلاثة أيام حتى ضجت العاصمة الجزائرية بأخبار متواترة عن "حرب إلكترونية" من تدبير "الشلة الرئاسية"، من خلال استعمال شبكات التواصل الاجتماعي لنشر إشاعات وأخبار كاذبة.
وسرعان ما بينت التحريات بأن تلك الحملة تُدار، بإشراف شركة إلكترونيات يملكها كريم بن منصور، ابن شقيقة الرئيس بوتفليقة، في مبنى من خمسة طوابق، يقع في حي "حيدرة"، في أعالي العاصمة، كان يُفترض أن يكون مقراً لقناة تلفزيونية تحمل اسم "استمرارية" تقرر إطلاقها ضمن حملة الترويج لترشيح بوتفليقة لولاية خامسة.
مخاوف من خديعة للزج بالجيش في العنف
وتجددت المخاوف من تدبير الحلف الرئاسي "خدعة" بهدف جر الحراك الشعبي إلى العنف، لكن قيادة الأركان سعت إلى تهدئة "الضباط الناقمين"، داعيةً إلى التريث وضبط النفس، لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت السماح، مساء السبت 23 مارس، بإقامة تظاهرة لقدامى "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، في معقلهم التاريخي في حيّ "القبة"، في الضاحية الشرقية للعاصمة، على الرغم من أن تحركات الناشطين الإسلاميين تخضع، منذ حل حزبهم في العام 1992، لرقابة لصيقة من قبل أجهزة الاستخبارات.
ووفقاً لمصدر أمني تحدثت إليه "اندبندنت عربية"، فإن "عدم اعتراض هؤلاء المتطرفين من قبل أجهزة الأمن، خلال تلك التظاهرة، أكد الشكوك في أن "الشلة الرئاسية" تخطط لتخويف الحراك الاحتجاجي بـ "بعبع" عودة الإسلاميين، فضلاً عن محاولتها ابتزاز القوى الدولية بورقة التصدي للتطرف والإرهاب"، الأمر الذي دفع ثمنه رئيس جهاز الاستخبارات، الجنرال بشير طرطاق، المقرب من سعيد بوتفليقة، والذي أُقيل بعد ساعات على خطاب قائد الأركان الداعي إلى تفعيل الإجراءات الدستورية لتنحية الرئيس.
وزادت هذه التطورات من مخاوف الضباط الناقمين، وأفرزت إجماعاً في قيادة الجيش بأن إبعاد "الشلة الرئاسية" اصبح ملحاً، لوضع حد لمثل هذه الألاعيب.
لذلك، حين توجه موفدو الجيش إلى قصر الرئاسة، صباح الثلاثاء 26 مارس، لم تكن لدى غالبية الضباط أي أوهام بخصوص تجاوب "الشلة الرئاسية"، لكن قائد هيئة الأركان أصرّ، من باب الوفاء لمسار الرئيس بوتفليقة، على مخاطبة "روحه الوطنية"، مرة أخيرة.
واضافت الصحيفة بأن قائد الأركان كان يفضل حلاً توافقياً، تفادياً لاضطرار الجيش إلى إكراه الرئيس على التنحي، لكن تعنت الفريق الرئاسي ورفضه أي تعديل في خريطة الطريق التي أُعلن عنها في 11 مارس، لم يترك له خيار آخر.
"غلاف دستوري" لا يحظى بالإجماع
وعلى الرغم من إجماع القيادة العسكرية على ضرورة التعجيل بتنحي بوتفليقة، إلا أنها حرصت على الاستعانة بخبراء في القانون الدستوري لإيجاد الصيغ القانونية الأمثل التي يتوجب على رئيس الأركان اعتمادها في خطابه لتفادي إعطاء انطباع بأن الأمر يتعلق بـ "انقلاب عسكري"، خوفاً استغلال ذلك من قبل بعض أطراف المعارضة، الإسلاميين بخاصة، لمحاولة تأليب "الحراك" ضد المؤسسة العسكرية.
وفي وقت شكّل رفض التمديد للرئيس بوتفليقة أحد المطالب الرئيسة للحراك الاحتجاجي، إلا أن أغلب الناشطين سارعوا إلى الاعتراض على استعمال المادة 102، لأن من شأنها أن تختزل التحول الديمقراطي المنشود في انتخابات مشكوك في نزاهتها، لأنها ستُجرى تحت إشراف الهيئات الإدارية والحكومية ذاتها التي نصبها الرئيس بوتفليقة، ووفق الدستور والقانون الانتخابي اللذين تم تفصيلهما على مقاسه.
ويتنافى ذلك مع تطلعات الحراك لتأسيس "جمهورية ثانية"، لذلك يُرتقب أن يشهد يوم الجمعة 29 مارس حشداً احتجاجياً ضخماً، للتشديد على تمسك "الحراك" بمطالبه بالإصلاح الشامل وإرساء مبادئ دولة القانون.