صمت النفري وكلامه

تمتد حياة المتصوف العربي اللسان أبو عبد الله النفري المولود في عراق الرافدين ما بين النصف الثاني إلى ما بعد نهاية النصف الأول بقليل من القرنين الثالث والرابع الهجري.

عاش هذا الرجل صاحب الأسلوب البليغ البديع في الكتابة الصوفية والأدبية صامتًا لا يتكلم حتى فضحته مواقفه ومُخاطباته التي كانت قناعًا تخفىَّ وراءه خلال رحلته العروجية إلى الحق سبحانه الذي هو رب الكلام ورب حرية الكلام.

هرب النفري من الناس ومن حياة الناس راضيًا بمكانٍ آخر لم يُعرف أين هوَّ لكنه وجد فيه إتساعًا، وظل هروبه امتدادًا لعيش الزهد وهروبًا إلى من لا مهربَ منه إلا إليه.

والمتصوف أبو عبد الله النفري مؤلف المواقف والمخاطبات يختلف عن حفيده لابنته محمد بن عبد الجبار النفري الذي عنيَّ بما تركه جده من كتاباتٍ وتراث صوفي وألف من بينها بعدما أعاد تنظيمها، حتى سقطت هذه المؤلفات بعد نحو 3 قرونٍ في يد محي الدين بن عربي الذي أعجب بما فيها وكتب عنها وعن مؤلفها الذي يروىَّ بأنه خشيَّ على حياته أن يطالها ما طال حياة الحلاج الذي أذيق الموت بسبب شطحاته لأنه لم يعي حقيقة عصره بعدما سادت فيه المادية وعلىَّ فيه صوت رجال الفقه إذ وصلت العلوم في دولة الخلافة العباسية إلى مستوىٍ لم يحدث في السابق ببلاد المسلمين وغير المسلمين.

لم يُعرَّف النفري بأي أرضٍ مات، ولم يكن له أتباع ولا تلاميذ بالمعنى المتعارف عليه، لكن بقى مما فعله في حياته تراثه وفلسفته ورؤيته للعقيدة والحقيقة.

قال المتصوف أبو عبد الله النفري بوحدة الشهود وقال بوحدة الوجود، معتبرًا أن الشهود والفناء عن ما سوى الله هو شهود ذوقي قلبي لا تدركه المعرفة العقلية ولا يُقام عليها برهانٌ علمي. بينما وحدة الوجود فإنها عنده لا تعني اتحاد المخلوقات مع الخالق، بل آمن بثنائية الحق والخلق، وقال بأن الحق هو عين الوجود وأصلُ كل الأشياء، وهوَّ سبحانه وتعالى منزهٌ عما سواه فهو الواحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء.

رفض النفري الاعتداد بالمعرفة العلمية النقلية معتبرًا أنها ناقصة يُحاول نيام أهل الأرض الاستدلال بها والبناء عليها في غفلتهم، بينما هناك معرفة أكبر وأعمق لكنها قلبية لا حسية ولا يصل إليها أي إنسانٍ سوى بشروط وبضوابط، وهيَّ معرفة تخترقُ كل الأشياء لأنها وراء كل الأشياء، مغردًا بأفكاره هذه في نصوصٍ أدبيةٍ تحمل ضمن كلماتها أعمق المعاني الفلسفية التي اختزلها في لغة مجازية مستعارة لا يزال علماء اللغة والباحثين يصدمون من روعتها حتى اليوم

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً