حكايات وقصص تحملها شوارع مصر القاهرية من عقود مضت، بين كل درب وحارة حكاية أُناس عاشوا أصالة الزمن الطيب وتباركوا به، فما من شارع تتنزه فيه إلا وله حكاية بسكانه وتاريخه.
إذا تركت قدمك تطؤ أي بقعة من شوارعها العتيقة ستجد بقعة لها باع طويل من النوادر، وحكايات بعضها طريف وآخر مؤلم، وفي أحد شوارع القاهرة التي يحمل اسم رجل مصري مهم لكنه أجنبي أحيانًا، وفي هذه الحارة القابعة به، أخذت اسم المهرة من حرفييها وصُناعها.
كان الشارع شاهد على حي له تاريخ من العصر الفرعوني، وأثناء تجولك به قد لا يخطر ببالك سؤال تسأله عن تاريخ الشارع ومغزى اسمه، فقد صادفه الكثير من قبل مكتوب على أحد الأظرف أو المُراسلات الهامة "شارع الخليج المصري". هو شارع "بورسعيد" في الوقت الحالي الذي يُعد من أشهر شوارع القاهرة، والذي يحمل لنا قصص وحكايات عن أيام بعيدة مضت ولكن لا زالت تحملها جُدرانه.
بالتأكيد لم تكن هيئة الشارع كما هي عليه اليوم، إذ فلم يكن الشارع قديمًا تجوبه السيارات تسير فيه المارة على أقدامهم مارين بالمحال التي تحمل زخم في واجهاتها مثلما يحدث اليوم، بل كان يعبره المارة من خلال قناطر وجسور بُنيت فوقه وكانت تشقه مراكب التنزه من تحتها.
سُمي بشارع الخليج المصري نظرًا للمجرى المائي الإصطناعي الذي شقه المصري قديمًا ليُساعده على ري الأراضي التي لم يصل إليها مياه النيل بشكلِ كافِ، وكانت تطل عليه البيوت مباشرةً من خلال مشربيات خشبية ذات شكل جمالي. إطلالة مُفعمة بالحيوية والبهجة، تحمل عبير الزمن الجميل في مشهد كأنه لوحة فنية لمباني فينيسيا من زمن مضى، تسمح بمرور نسمات الهواء المنعشة في حر الصيف.
لم يكن هذا التصور مجرد وصف في الأعمال الأدبية في الشعر والنثر، بل استطاع الرحالة التقاط صورًا لحياة الإنسان على الخليج المصري زمان.
شارع بورسعيد
قصة الخليج الذي تحول إلى "شارع بورسعيد"
ترجع بدايات شارع الخليج، إلى العصر الفرعوني وبالتحديد إلى الأسرة السادسة والعشرين عندما حاول نخاو بن بسماتيك أن يحفر مجرى مائيًّا، ولكنه لم يتمم العمل فيه.
وحاول بعض الحكام الذين أعقبوه أن ينجزوا العمل في الخليج إلا أنه لم يكتمل على أكمل وجه إلا في عهد بطليموس الثاني، ومن هنا سمي الخليج باسم "خليج بطليموس".
تعاقب الحكام على مصر فكان لكل منهم بصمته على خليجها بين إعادة حفر أو نقل لفم الخليج - المكان والمصدر الذي يأخذ لخليج منه الماء من النيل - أشهرها إعادة حفره في عهد تراجان، حتى أنه أخذ اسمه منه "خليج تراجان"، ثم دخل المسلمين مصر، وأعادوا حفر الخليج مرة أخرى، وعرف بعد ذلك باسم "خليج أمير المؤمنين". كما عرف أيضًا الخليج المصري باسم "الخليج الكبير"، تميزًا له عن خليج فرعي آخر أصغر هو "الخليج الناصري" الموازي له الذي أمر ببنائه الناصر محمد بن قلاوون.
شارع بورسعيد
وكان الخليج الجديد الذي شق في عصر الناصر محمد يساهم مع الخليج المصري في تزويد البرك والحدائق المنتشرة في وسط القاهرة آنذاك بماء النيل لاسيما في أوقات الفيضان.
من أشهر هذه البرك " بركة الأزبكية وبركة الفيل وبركة الرطلي، أسماء كثيرة حملها الخليج وعُرِف بها وفاءً لكل يد ساهمت فيه وطورته إلا أنه يبقى في النهاية يحمل اسم "الخليج المصري".
ويبلغ طول الخليج بحدود مدينة القاهرة الكبرى 46,20كم، ويبلغ عرضه من خمسة إلى خمسة عشر مترًا، وكان ارتفاع الماء به أيام الفيضان يصل إلى ما يقرب من ستة أمتار.كان الخليج المصري والبرك المحيطة به مركز جذب نموذجي للسكنى على ضفتيه، وجذب المُقتدرين ماديًا من أهل القاهرة على شراء الأراضي المطلة عليه، وتباروا في بناء البيوت وتزينها، وألزمتهم الحكومة بمسؤلية تنظيف الخليج وتنقيته من العوالق، كلُّ ينظف أمام منزله.
أما العامة من الشعب وغير القادرين على السكن على ضفاف الخليج، فكان باستطاعتهم التمتع بمنظره والتنزه فيه وحضور الحفلات والمسامرات التي تقام أيام الأعياد والعطلات، لذا تميّز الشارع بهذه الأُنسيات.
وفي العصر الحديث، كثُرت القناطر بالخليج وكان بها قنطرة ثابت باشا الواقعة بين قنطرة باب الخرق وقنطرة الأمير حسين، وقنطرة بين السورين الواقعة بين قنطرة الموسكي وقنطرة الشعراني، وقنطرة سكة حديد السويس الواقعة بين قناطر الإوز وقناطر بني وائل.
بات الخليج المصري صورة حية شاهدة على تجربة مميزة عاشتها مصر المحروسة، ولكنها لم تستمر إلى اليوم؛ نتيجة لإهمال الحكومة لهذا المرفق الهام، ونتيجة لسلبيات سلوك الأهالي تجاه الخليج من إلقاء القاذورات والمهملات وعدم تنظيفه أولاً بأول مما أدى إلى ركود بقايا المياه فيه وتعفنها، فانبعثت الروائح الكريهة منه، وأصبح من أكثر الأماكن التي تنتشر فيها الأوبئة.
كما ساعد على ذلك أيضًا تغير مجرى نهر النيل، وقلة منسوب المياه في فترات طويلة، ولذلك لم تتردد الحكومة في ردمه واستغلال مساحته في تسيير خطوط الترام الجديدة؛ لتخدم أهالي المحروسة في الفترة بين عامي 1896- 1898، وردمت معه القناطر التي شُيّدت فوقه، لتنطوي بذلك صفحة الخليج المصري.