"الخبر العاجل" فيه سم قاتل

الخبر العاجل"

يظل للإعلام هيبته وأهميته الكبرى، لما يحظى به من إمكانيات، ووسائل تساهم بشكل مباشر وغير مباشر فى صناعة المفاهيم التى توجه السلوك نحو خدمة هذه المفاهيم، فالإعلام صناعة لوجستية داعمة للصناعات الإقتصادية والسياسية لذلك فالمشروع الإعلامى يخطط له من البداية لخدمة مصالح صاحبه ومموله، وأصبح هو اللاعب الرئيسي المسيطر أن لم يكن المطلق فى تشكيل الوعى، لذلك نجد الإعلام هو السلاح البديل للسلاح التقليدى الأكثر تدميراً والأقل تكلفة، والذى حسم العديد من المعارك العسكرية بفضل القوة التضليلة للأجهزة الإعلامية، والتى تعمد إلى إنشر الإحباط وأمراض السلبية واللامبالاة بإخماد العقل والسيطرة عليه عن طريق دس المعلومات المنقوصة المشوهة الزائفة التى تشل حركة ووظائف أجهزة التفكير، وتحجب عنه المعلومات الحقيقية التى لأسباب بصيرية قد تجعله يخطئ التقدير والتصور والعواقب لبعض الوقت، لكنه سيظل إلى الأبد عرضه للصواب وقت توفرت له ظروف تنقية للرؤية.

إن اتهام قنوات أو أجهزة إعلامية بعينها بتعمد التضليل الإعلامى، هو اتهام موثق بالمشاهدات والأدلة التى لا مجال لذكرها فما كان بالأمس القريب شك فى نوايا أصبح اليوم يقين وحقيقة ملموسة، ولكن هناك أجهزة إعلامية لا تنطبق عليها هذه المشاهد والأدلة لكنها تمارس التضليل الإعلامى عن غير قصد، بل أنها تهدف فى المقام الأول إلى منافسة الأجهزة المضادة التى تمتلك من الإمكانيات المادية والمهنية والبشرية أضعاف ما تمتلكه هذه الأجهزة التى نحتسبها حامية للوطن ورسالته الوطنية، وتساهم هذه المنافسة غير المتكافئة فى تحويل الأخبار إلى سلع سريعة التلف تحتاج أن تصل للمستهلك فى أسرع وقت ممكن، مسبوقة بكلمة "عاجل" أو "حصرى"، وتكمن الخطورة فى هذه الأخبار أنها تصنع جو هستيرى بعيداً عن المنطق و المعقولية لدى المتلقى، وتضخم من أهمية موضوعات لا قيمة لها، و يتبعها غالباً خطوات تقلل من أهمية هذه الموضوعات وتفرغها من أى آثار وتحليلات صاحبت الحدث العاجل، مثلما تابعنا ونتابع فى العديد من الحوادث التى تُنسج خيوطها على وسائل التواصل الاجتماعى وتتسابق الصحف والمواقع والبرامج التليفزيونية فى نقلها، ثاقبة عقل المواطن بثقوب كالغربال تعبر منها عشرات الأخبار غير الهامة والهامة على حد سواء، ويعزى هؤلاء الصحفيين وصحفهم ما عزى به كاتب المقالات الأمريكي "جاك أندرسون" نفسه فى عام 1972م، عندما أتهم "توماس إيجلتون" المرشح على قائمة الحزب الديمقراطى لمنصب نائب الرئيس بتهم أضرت به وبمستقبله السياسي بعد أن تأكد من عدم صحة معلوماته ، أعتذر ووجه اللوم إلى الوضع التنافسي لأنه أن لم يسرع بالنشر لأسرع غيره.

أن هذا الوضع الثقافى الهش الذى نتلمسه جميعاً، والذى تولى مهمة إعداد الطرق للإعلام الموجه معلوم المصدر والأهداف ليصل إلى عقول البسطاء من أبناء الشعب المصرى العظيم، فى مرحلة فارقة من تاريخه المعاصر، ساهم فى بنائه الإعلام الذى أخذ يلهث وراء الأخبار العاجلة وتناسي الأخبار ذات الطابع التراكمى الفكرى الذى يشكل الوجدان ويعطى للعقل مساحة للتفكير والتفرز، فنحن فى حاجة إلى حملات توعية وتحقيقات مسلسلة تتولى قضايا تخدم الوطن والمواطن، فإذا كان ثلث الإنسان جينات وثلث تربية و ثلث مناخ، فالإعلام صانع المناخ، وغارس التربية الوطنية فى جينات الشعب الحضارية الاصيلة لتحيا مصر.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً