على مقربة من مسجد العارف بالله ابن عطاء الله السكندري بجبل المقطم في القاهرة، وأمام محراب عبد الله بن أبى جمرة، يتزاحم الكثيرون بغية الدلوف إلى غرفة صغيرة تسع بالكاد لشخص واحد كي ما ينالوا البركة ويرفعوا أكف الضراعة إلى المولى عز وجل؛ هذه الغرفة هي الخلوة التي كانت تتعبد فيها السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم.
شاهد.. المحراب الذي كانت تتعبد فيه السيدة نفيسة بجبل المقطم
تشغل خلوة السيدة نفيسة بالمقطم، مكانة روحية عالية في نفوس العامة الذين يتوافدون إليها طوال أيام العام طلبًا للبركة وتيقنًا أنها من الأماكن التي لا يُرد فيها الدعاء، وقد صرح كثير من العلماء أن هذه البقعة الصغيرة من الأماكن المباركة، ووصفوها بقولهم: "ولا شك أن الله اختص بعض البقاع في الأرض باستجابة الدعاء فيها، ومن هذه الأماكن الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، وروض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، وخلوة السيدة نفيسة رضي الله عنها بسفح المقطم في مصر".
ولدت السيدة نفيسة، بمكة المكرمة في 11 من ربيع الأول عام 145 هـ، وانتقل بها أبوها "الحسن الأنور" إلى المدينة المنورة وهي في الخامسة من عمرها، وهناك كانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع العلم من شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى لقبها الناس بـ«نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.
تزوجت السيدة نفيسة، في رجب عام 161 هـ، من "إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، ورحلت مع أسرتها إلى مصر، ووصلوا إلى القاهرة في 26 رمضان عام 193 هـ، وحين علم المصريين بقدومهم خرجوا لاستقبالهم في العريش، ورحبوا بهم، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم حتى كادوا يشغلونها عما اعتادت عليه من عبادات، فخرجت عليهم قائلة: «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى»؛ ففزعوا لقولها، ورفضوا رحيلها، حتى تدخَّل والي مصر السري بن الحكم وقال لها: «يا ابنة رسول الله، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه»، فوهبها دارًا واسعة -وهي مكان مسجدها الحالي-، وحدد يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة، لتتفرغ هي للعبادة بقية الأسبوع. فرضيت وبقيت.
أقامت السيدة نفيسة، في منزلها الذي أهاده لها الوالي، وهو الذي دفنت فيه بعد وفاتها ثم تحول إلى مسجدها الشهير بحي السيدة عائشة، وكانت تسير يوميًا على قدميها من هذا المنزل وحتى مكان خلوتها في سفح المقطم، وتظل هناك تصلي وتقرأ القرآن وتتقرب إلى الله بشتى أنواع العبادات والقربات.
ولمَّا وفد الشافعي إلى مصر سنة 198 هـ، توثقت صلته بنفيسة بنت الحسن، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء.
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه، إذا مرض يرسل لها رسولا من عنده، فيقرئها سلامه ويقول لها: "إن ابن عمك الشافعي مريض، ويسألك الدعاء"؛ فتدعو له، فلا يرجع إليه رسوله إلا وقد عوفي من مرضه؛ فلما مرض "الشافعي" مرضه الأخير، أرسل لها على عادته رسوله يسألها الدعاء له، فقالت لرسوله: "متّعَه الله بالنظَر إلى وجهِه الكريم".
ومن كرامات السيدة نفيسة رضي الله عنها، أنه كان في حياتها أمير ظالم فطلب إنسانًا ليعذبه، فمر ذلك الإنسان بالسيدة نفيسة واستجــار بها وطلب منها الدعاء له، فدعت له بالخلاص من ذلك الظالم وقالت: إمض حجب الله عنك أبصار الظالمين؛ فمضى ذلك الرجل مع أعوان الأمير الظالم إلى أن وقفوا بين يديه، فقال الأمير لأعوانه أين الغلام؟ فقالوا إنه واقف بين يديك فقال الأمير: والله ما أراه فقالوا إنه مرّ بالسيدة نفيسة وسألها الدعاء، فقال الأمير وبلغ من ظلمي هذا كله أن يحجب الله عني المظلوم، فقال يا ربّ إني تائب إليك، فلما تاب ونصح في توبته رأى الرجل فقال له: تعال إلي وقبل رأسه وألبسه ثيابًا ثمينة وصرفه من عنده.
في رجب من عام 208 هـ، مرضت السيدة نفيسة رضي الله عنها، واشتد عليها المرض حتى توفيت في رمضان من العام ذاته، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وكان يوم دفنها مشهودًا، ازدحم فيه الناس لتشييعها ودفنت بمسجدها المشهور في حي السيدة عائشة.