يُعد أبو بكر محمد بن سيرين البصري، أحد كبار الأئمة فى الفقه والحديث؛ إلا أن صيته ذاع بشكل أكبر في علم تفسير الرؤى والأحلام، ليكون أشهر من ورثوا نبي الله يوسف الصديق عليه السلام، في هذا العلم. ولد "ابن سيرين" في عهد خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان، وكان أبوه "سيرين" مملوكًا للصحابي الجليل أنس بن مالك، إذ كان ضمن الغنائم التي حظى بها المسلمون بعد معركة عين التمر التي وقعت في خلافة أبو بكر الصديق، وبعدها بقليل أعتقه أنس بن مالك، بينما كانت أمه "صفية" مملوكة لـ"أبي بكر الصديق" وقد اعتقها أيضا وعرف عنهما الصلاح والتقوى.
اقرأ أيضًا.. خلوة السيدة نفيسة في المقطم.. سر المكان الذي لا يرد فيه الدعاء
نشأ "ابن سيرين"، فى بيت عرف عن أهله الورع والتقوى وأنه قد جمع علمه عن الكثير من الصحابة أشهرهم أبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وعبدالله بن الزبير، واستفاد من علومهم وروايتهم للأحاديث النبوية الشريفة، وكان له العديد من تلاميذه الذين أخذوا عنه علمه أمثال جرير بن حازم، وخالد الحذاء، وعقبة بن عبدالله الأصم.
وعرف عنه التزامه الحق، وكانت له مواقف مشهورة مع ولاة بني أمية صدع فيها بكلمة الحق وأخلص النصح لله ولرسوله؛ منها: سأله مرة عمر بن هبيرة والي بني أمية على العراق: "كيف تركت أهل مصرك يا أبا بكر (كنية ابن سيرين)؟!"، فقال محمد بن سيرين: "تركتهم والظلم فيهم فاش وأنت عنهم لاهٍ. فغمزه ابن أخيه بمنكبه"، فالتفت إليه قائلا: "إنك لست الذي تُسأل عنهم وإنما أنا الذي أسأل وإنها لشهادة (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)"؛ فأجزل ابن هبيرة له العطاء فلم يقبل، فعاتبه ابن أخيه قائلا: "ما يمنعك أن تقبل هبة الأمير؟"؛ فقال: "إنما أعطاني لخير ظنه بي، فإن كنت من أهل الخير كما ظن، فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن، فأحرى بي ألا استبيح قبول ذلك".
اقرأ أيضًا.. رحلة ابن عطاء الله السكندري من إنكار التصوف إلى "قطبية العارفين"
وكان الناس إذا ما رأوا "ابن سيرين" هللوا وعلت أصواتهم بالتكبير؛ فيحكى أنه فى أحد الأيام سمع رجلًا يسب "الحجاج بن يوسف" بعد أن مات، فقال له: "صه يا ابن أخى، فإن الحجاج مضى إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله عز وجل ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته فى الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج".
ومن أشهر مؤلفاته "كتاب تفسير الأحلام". توفي "ابن سيرين" عام 110 من الهجرة، بعد أن عٌمر حتى بلغ السابعة والسبعين عامًا، وكان موته بعد وفاة الحسن البصري بمائة يوم وأوصى أهله وبنيه بأن يطيعوا الله ورسوله واستشهد بقول الله تعالى: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ".
اختلفت الروايات حول المكان الذي دفن فيه "ابن سيرين"؛ فهناك من يؤكد أنه دفن في منزل بسيط مكون من طابقين يقع في ناصية مدخل حارة البلاسي بشارع الأشراف في حي الخليفة بالقاهرة، وهذا المنزل ما زال حتى اليوم يلقى اهتمامًا بالغًا من أهالى المنطقة، إذ يقع في أسفله وعلى يسار بوابته ضريح بأشهر الزاهدين ومُفسرى الأحلام فى التاريخ.
يشبه ضريح "ابن سيرين" بحي الخليفة، حياته؛ فقد عاش زاهدًا فى الدنيا لا يبغى ملذاتها، وكذلك قبره الذي يبدو بسيطًا يقع بين المباني الهالكة الموجودة بهذا الشارع، فلا يعلم الكثير ممن يمرون بالشارع أنه يرقد بالقرب منهم، فالبعض يظن أنه مات ودُفن فى أرض البصرة بالعراق.
وهناك من يؤكد (وهو القول الأرجح)، أنه دفن في البصرة ويقع ضريحه حاليًا في مبنى مرقد الحسن البصري.