اعلان

"زاهد المصريين".. وكيع بن الجراح: بحر العلم وشيخ المحدثين.. تتلمذ على يديه الإمام الشافعي.. ورفض مناصب هارون الرشيد (فيديو وصور)

ضريح وكيع بن الجراح بن مَلِيح الرؤاسي الكوفي

"شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي.. فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي.. وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ.. وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي"، كلمات وصف بها الإمام محمد بن إدريس الشافعي، النصيحة التي أهداها إليه شيخه وكيع بن الجراح، حين شكا إليه الشافعي عدم مقدرته على حفظ ما يُلقيه على مسامعه من علوم شرعية.

اقرأ أيضًا.. خلوة السيدة نفيسة في المقطم.. سر المكان الذي لا يرد فيه الدعاء

ولد وكيع بن الجراح بن مَلِيح الرؤاسي الكوفي، سنة 129 هـ، في بيت علمٍ ورياسةٍ واحتشام، بمدينة الكوفة بالعراق، وكان أبوه ناظر بيت المال في المدينة، ونشأ الصغير في بيئة علمية؛ إذ تفقه وحفظ الحديث، وذاع صيته واشتهر كأحد أعلام أئمة الحديث في عصره، ولقب بـ "بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، والعالم الجوال، والعابد المجتهد، وراهب العراق، وزاهد المصرين".

أساتذته وشيوخه

تلقى وكيع بن الجراح، العلم على أيدي الأعمش وهشام بن عروة والأوزاعى وابن جريج وغيرهم، ثم انقطع إلى إمام الوقت وبركة الزمان سفيان الثوري، فحمل عنه علمه وسمع منه كل مروياته، حتى لُقب بـ"راوية الثوري"، وطاف البلاد وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحدٍ من معاصريه، حتى إن أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلام حدث فيقول: "يا رؤاسيُّ، تعال، أي شيءٍ سمعت؟ فيقول: حدثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسيُّ حتى يكون له شأن".

اقرأ أيضًا.. أشهر مفسر أحلام فى التاريخ.. "ابن سيرين" وريث نبى الله يوسف

ظهر نبوغ وكيع بن الجراح في علم الحديث، حتى إن أستاذه سفيان الثوري، على جلالة قدره وعظم مكانته في الأمة -حينذاك- روى عنه الحديث، ولمـا مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه في مجلس تحديثه.

آية في الحفظ والإتقان

كان وكيع بن الجراح، آية من آيات الله عز وجل في الحفظ والإتقان؛ فلقد كان مطبوع الحفظ لا يسمع شيئًا إلا حفظه، ولا يحفظ شيئًا قط فينساه، أبهر الناس بقوة حفظه، وكان يستعين على ذلك بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو "محمد بن إدريس الشافعي"، عن دواءٍ يأخذه حتى يُقوي حفظه، فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ، وقد جرب الشافعي هذه الوصفة فصار مثل أستاذه حافظًا متقنًا لا ينسى شيئًا قط، وأنشد بعدها قوله المشهور:

شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي.. فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي

وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ.. وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي

اقرأ أيضًا.. "ترجمان الواصلين".. رحلة ابن عطاء الله السكندري من إنكار التصوف إلى "قطبية العارفين"

وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح، وإقبال الطلبة عليه وتصدره لمجلس تحديث الثوري، فإنه كان عابدًا، زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، ولا يتركه أبدًا، ويختم القرآن في الأسبوع الواحد عدة مرات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلًا بالأوراد والأذكار، لا يضيع لحظة من وقته هدرًا، ويقسم يومه على نفع نفسه والناس؛ فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث من الصباح إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمع الناس لسقيا دوابهم، فيعلمهم القرآن والفرائض وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار ثم يدخل منزله، فيتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر.

وأمام هذا العلم والزهد، عرض عليه هارون الرشيد، منصب القضاء في الكوفة عدة مرات فرفض بشدة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه سفيان الثوري؛ بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبس بشيءٍ من أمور السلطان؛ فلقد هجر أقرب أصدقائه -وهو حفص بن غياث- لمـا تولى منصب القضاء.

ثناء العلماء عليه

يتبوأ وكيع بن الجراح، مكانة خاصة ومميزة في طبقات حفاظ الأمة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أن العصر الذي عاش فيه كان زاخرًا بالكثير من الحفاظ والأئمة الأعلام؛ إلا أنه كان علمهم المقدم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: "ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوعٍ وورع"، ووصفه ابن عمار بقوله: "ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذًا لا ينظر في كتابٍ قط؛ بل يُملي مِنْ حِفْظِه"، وقال عبد الرزاق بن همام: "رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت ورأيت، فما رأت عيناي قط مثل وكيع".

وبعد حياة حافلة بالعلم والزهد والورع، مات وكيع بن الجراح، عام 197 هـ، ودفن في ضريحه القريب من مسجد الإمام الشافعي بحي الشيدة عائشة بالقاهرة.

شاهد.. البيت الذي عاش فيه "وكيع بن الجراح" شيخ الإمام الشافعي

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً