التنورة.. فلسفة الرقص مع الملائكة.. رقصة صوفية تركية.. طورها المصريون إلى فن شعبي بهر العالم (صور)

التنورة
التنورة

الرقص الصوفي، أو ما يعرف بـ"حفلات السماع"، ليس مجموعة حركات مرتجلة تؤدى على وقع الموسيقى والأشعار، بل هو فلسفة خاصة تقوم على سعي دؤوب لتطهير النفس ممّا علق بها من شوائب. وتجسد رقصة التنورة صورة حية لهذه الفلسفة المستوحاة من تراث صوفي عريق، إذ إنها نشأت في مدينة قونية التركية على يد جلال الدين الرومي الملقب بـ"مولانا"، المجدد لمشرب التصوف الفلسفي، والذي تطوّر في مصر.

تعكس التنورة فلسفة صوفية مصرية، وتعود في أصلها إلى طريقة المولوية التي أنشأها جلال الدين الرومي، لكن المصريين حين استحدثوا التنورة لم يأخذوا بكل طقوس المولوية، التي تشترط جلوس الشيخ في منتصف الساحة التي يرقص فيها المريدون، وبجواره يجلس طفل صغير، ويوضع البخور بكثرة، إضافة إلى أن التنورة أدخلت الأذكار التي تقولها الطرق الصوفية مُجتمعة، ولم تكتفِ بأذكار الرومي وحده.

الصعود إلى دائرة النور

يعتبر جلال الدين الرومي الرقص وسيلة تخلص الإنسان من ظلامية الذنوب، وتمكنه من الرقي إلى دوائر النور، وهو يقول: إن الإنسان كان قبل الخلق ذرة تحيا في عالم النور، وكان كل ما فيه نورانيًّا، وهو ما وصفه القرآن في الآية 172 من سورة الأعراف: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"، ثم بعد أن أصبح الإنسان مخلوقًا يعيش على هذه الأرض ارتكب الكثير من الخطايا، فتبدلت أنواره الداخلية بظلمات؛ ولذا فإن راقص (المولوية في تركيا/ التنورة في مصر) يقوم بحركات دائرية يذكر خلالها الله بكل حواسه، وهذا الذكر يرقيه ويخلصه من الذنوب، وهنا تبدأ رحلة الصعود والتسامي والعودة إلى دائرة النور مرة أخرى.

يؤكد جلال الدين الرومي أن الحركة في الكون تبدأ بنقطة معينة، وتنتهي عند النقطة ذاتها. وهذه النقطة هي مركز الأنوار ، ولا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يتخلص من كل ذنوبه، ويصبح محبًّا لكل المخلوقات، وهذا ما يركز عليه راقص المولوية (التنورة) من خلال أداء حركي يوازيه جانب روحي يعني التسامي والصعود من خلال الحركة الدائرية للجسد إلى الأعلى، حيث السماء والمحبوب الأكبر عودة إليه وذوبانًا فيه.

الأجساد الراقصة.. وفضاء العشق

يصف مولانا جلال الدين الرومي لحظات السعادة التي يشعر بها العاشقون قائلًا: «إن الأرواح التي تكسر قيد حبس الماء والطين، وتتخلص من حيزها الضيق، تكون سعيدة القلب.. ترقص في فضاءات عشق الحق.. تكون كالبدر في تمامه.. الأجساد الراقصة لا تسأل عن أرواحها، ولا تسأل عما ستتحول إليه».

حين يشع في قلبك كوكب.. تختبئ فيه السموات السبع.. وحين تفيض عيناك بأنهار من الدمع.. اعلم أنك ذبت في بحر العشق.. لم يبقَ كفر ولا إيمان.. شك ولا يقين.. لم يبقَ منك سوى عاشق.. داخل عشق.. حول معشوق.. حينها ابدأ دورانك وارتقِ.

يصف «مولانا» تلك اللحظات المقدسة بقوله: «حين تكون أنوار الضراعة ملهمة يجب أن تقضي بكمال الصمت والهدوء المقدس.. وإن تضرعاتنا وقت مؤثر؛ لأن وجودنا يكون في خلود وصفاء.. وذلك وقت أن يطير المتضرع في السموات بأجنحة الكلام المقدس، منطلقًا إلى حيث مقام حقيقة الحياة والكائنات، إلى حيث تحيط به هالة نور.. وهذا الضرب من أفراد الناس يظفرون بمقام نسميهم فيه أرواحًا مجردة، ومكانهم هو عالم الغيب».

بهجة المصريين.. الحياة تحلو بالرقص

وحين وصلت المولوية إلى مصر، طورها المصريين، وبدلوا الثياب السوداء التي كان يرتديها دراويش المولوية إلى ثياب بيضاء وأخرى ذات ألوان مبهجة، كما أضافوا إليها الدفوف والفانوس، وجعلوها فنًّا استعراضيًّا مُتكاملاً، رافعين شعار: "الحياة تحلو بالرقص مع الملائكة".

يرتدي راقص التنورة شيئًا يُسمَّى "اللفيف" وهو تنورتان أو ثلاث، واستلهمت ألوانها من الأعلام والبيارق الخاصة بالطرق الصوفية، ويصل وزن الواحدة إلى حوالي ثمانية كيلو جرامات، كما يرتدي الراقص أيضًا فوق نصفه الأعلى "السبتة" أو الحزام؛ لشد ظهره وهو يدور، بينما يتسع الجلباب من الأسفل؛ ليعطي الشكل الدائري طرفه عند الجانب الأيسر.

يقف راقص التنورة رافعًا يده اليمنى إلى الأعلى (مشيرًا إلى السماء) وخافضًا اليسرى إلى الأسفل (مشيرًا إلى الأرض)، وهو بهاتين الإشارتين يربط ما بين السماء والأرض، ثم يأخذ في الدوران وهو يردد لفظ الجلالة "الله"، والسر في تكثيف الدوران هو السعي إلى التخلص من الذنوب، وفق فلسفة السماع عند مولانا جلال الدين الرومي.

وكالة الغوري.. وعروض التنورة

اعتمدت وزارة الثقافة المصرية، برنامجًا سنويًّا ثابتًا لعروض التنورة؛ إذ تفتح وكالة الغوري بشارع الأزهر في القاهرة أبوابها مساء السبت والاثنين والأربعاء من كل أسبوع؛ لاستقبال الجمهور العاشق لهذه الرقصة الصوفية والفن الشعبي المصري، وتلقى عروض التنورة إقبالًا منقطع النظير من المصريين والعرب والأجانب الذين يحرصون على حضور العروض؛ للاستمتاع بأجواء الروحانيات الصوفية الممزوجة بالفن المصري المبهج.

وفي ليالي شهر رمضان المبارك يتزاحم المئات حول وكالة الغوري بالأزهر؛ لحضور عروض التنورة؛ إذ إن الإقبال في هذا الشهر الكريم يكون مضاعفًا عن باقي أيام العام، وربما يعود السبب وراء هذا إلى الأجواء الروحانية العالية التي تعكسها حركات راقصي التنورة والأشعار الصوفية التي يرددونها.

نقلا عن العدد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً