أكتب اليوم عن التعليم والديمقراطية، انطلاقا من أن التعليم أحد أهم الآليات المسئولة عن بناء وصياغة منظومة القيم والسلوكيات والوعي لأي مجتمع.
وفي المقابل فإن الديمقراطية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم ولكنها فكرة ونظام متكامل ترتبط بحياة الإنسان ووعيه وسلوكه وتفاعلاته مع الآخر.
وهنا يتقاطع التعليم مع الديمقراطية، فالتعليم الجيد والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن لأي مؤسسة تعليمية الإسهام بفاعلية في ترسيخ منظومة قيمية وأخلاقية وعلمية إلا في ضوء بيئة ديمقراطية.
وفي هذا الصدد فإن المحدد الرئيسي للعلاقة بين التعليم والديمقراطية هو الهدف من المنظومة التعليمية، وما إذا كانت هذه المنظومة تهدف إلي تخريج أجيال ليس لديها أي إبداع أو فكر أو استقلالية أو فكر نقدي ليس لها أي دور سوي السمع والطاعة، أم أنها تهدف إلي تخريج أجيال مستقلة مبدعة ذات عقليات نقدية تعرف ما لها وما عليها.
وفي كتابه الممتع "سيكولوجية الديمقراطية" ذهب الدكتور "ماجد موريس" إلي أن آلية وهدف التعليم يجب وأن يتواءم مع نوع الديمقراطية التي ينشدها الشعب، وذكر في هذا الصدد ثلاث أنواع للديمقراطية:
1- ديمقراطية المؤسسات، والتي تقتصر علي توافر المؤسسات التي يتم من خلالها ممارسة الديمقراطية مثل البرلمان والأحزاب والنقابات ، وهدف هذه الديمقراطية هو تحقيق الاستقرار والتقدم الإقتصادي للمجتمع، وفي هذه الحالة يكون هدف التعليم هو إخراج الموظف أو العامل المثالي.
2- الديمقراطية الشعبية، وتتمثل في اتساع نطاق المشاركة الشعبية في الأنشطة المدنية، وحسب هذا المفهوم يكون الغرض من التعليم هو أن يشتبك المتعلم مع مشاكل وقضايا الحياة اليومية ، كي يشعر بالمسئولية عما يمكن أن يكون توازنا بين الاستقرار والحراك الاجتماعي، فيتحرك الشباب في هذا الإطار بوعي نقدي ويشترك في الجهد المنظم في ضوء المبادئ العامة.
3- الديمقراطية العميقة، وتعني أن تتسرب الديمقراطية إلي كل جوانب الحياة المدنية ولا تقتصر علي المشاركة في الحياة السياسية فحسب، وفي هذا الصدد تكون وظيفة التعليم هي التمهيد لإعادة بناء عميق للشخصية التي ستشتبك وتتفاعل بنضج مع مؤسسات المجتمع المختلفة، كما أن هذه الشخصية مطالبة بأن تتعامل مع البيروقراطية والتسلل الوظيفي، وليس مستغربا أن تواجه هذه الديمقراطية وهذا الهدف بشراسة من كل المؤسسات التقليدية في المجتمع.
ثم أتبع قائلا: "الديمقراطية الحقيقية مشروع مستمر في الزمن ومستمر في إطار الجدل بين الفرد والمجتمع، ديمقراطية اجتماعية تنفذ حتي الجذور، تساؤلية واستطلاعية بإصرار، تحرص علي الحركة وترفض البديهيات ، احتوائية لا تقصي وتعاونية تشاركية لا تستبعد، تتطلب ممارسة الديمقراطية العميقة توسيع دائرة المشاركة النشطة من طلبة المدارس والشباب والجماعات المهمشة والأقليات، فتتعاون جميعها في بناء الجسر بين الواقع البالي والمستقبل الأفضل، تشترك لتبني جسر التحدي الصعب الذي لا يقدر علي التصدي له سوي ديمقراطية عميقة وتعليم ينسجم معها".
ويمكن رصد أهم الإشكاليات التي نواجهها في مجتمعاتنا فيما يتعلق بالتعليم والديمقراطية في الآتي :
1- الطابع السلطوي للمؤسسات التعليمية، من خلال أدلجة المنظومة التعليمية وإخضاعها لتوجهات واعتبارات سياسية .
2- المناهج الدراسية ذات التأثير السلبي علي ترسيخ ثقافة وقيم الفكرة الديمقراطية .
3- ما أسماه " باولو فراراي "ب" التعليم البنكي" والذي يقوم فيه المعلم فقط بإيداع المعلومات المعدة مسبقا في عقول الطلبة ، وبالتالي يقتصر دور الطلبة علي التلقي السلبي.
4- البيروقراطية وغياب روح الإبتكار والإبداع والفكر الناقد والتفكير خارج الصندوق.
كل هذه الإشكاليات تتعارض والفكرة الديمقراطية التي تقوم في جوهرها علي التحرر والتفكير والإبداع والوعي بعيدا عن الجمود والأفكار المعلبة.
ونخلص مما سبق إلي أن العملية التعليمية بالطبع تضلع بدور مهم للغاية ولكنها في مجتمعاتنا تفتقر للرؤية والتخطيط الإستراتيجي المناسب والواقعي، والموارد البشرية المختصة والاحتياجات المادية، هذا بالإضافة إلي الأزمة الأكبر المتمثلة في خضوع المنظومة التعليمية علي مدي عقود لتوجهات سلطوية.
كل هذا يقتضي منا عند الحديث عن إصلاح منظومة التعليم أن لا ننكر أن الجانب الفني والتقني مهم ولكن الجانب الأهم في هذا الصدد هو العنصر البشري "بناء الإنسان" سواء علي صعيد الطلبة أو المعلمين، فطلبة اليوم هم في المستقبل القريب سوف يشكلون عقول هذا المجتمع ونخبه التي تصنع القرار وبالتالي فالإستثمار في إصلاح المنظومة التعليمية بشكل عام والتركيز علي العنصر البشري بشكل خاص هو المرتكز الرئيسي لأي عملية تحول ديمقراطي في هذا المستقبل القريب.