شركة "سوناطراك" النفطية دولة داخل الدولة في الجزائر، حيث تمثل 40% من إيرادات الحكومة وأكثر من 95% من صادرتها،فهي من أكبر الشركات التي تعتمد الحكومة الجزائرية على إيرادتها، ولكن عقب الأزمات التي تمر بها الجزائر، كيف ستشكل تلك الشركة مستقبل الجزائر بعد الإطاحة بالرئيس الجزائري "عبد العزيز بوتفليقة"؟
وفقاً لموقع "ستراتفور" الأمريكي فإن المشكلات الحالية التي يعاني منها اقتصاد الدولة الجزائرية وقطاع النفط فيه تعود إلى الاستعمار الفرنسي، مثل معظم المشكلات السياسية المعقدة الأخرى في الجزائر،حيث كان قطاع النفط العالمي خلال النصف الأول من القرن العشرين واقعاً تحت سيطرة بعض الشركات من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، وفي ذلك الوقت لم تكن القارة الأوروبية تملك الكثير من الموارد الطبيعية؛ ما أجبر فرنسا على الاعتماد على الولايات المتحدة ثم على الشرق الأوسط في النهاية للحصول على النفط.
ثم عقدت تلك الشركة اتفاقاتٍ مع شركة البترول الفرنسية لإجراء عمليات تنقيب، توجت باكتشاف حقلي حاسي مسعود وحاسي الرمل عام 1956، ما جعل فرنسا منتجاً رئيسياً للبترول بين ليلة وضحاها.
واندلعت حرب استقلال الجزائر في ذلك الوقت، وكي تضمن فرنسا أمن مصالحها، بغض النظر عن علاقتها مع الجزائر مستقبلاً، فصلت الجزء الواقع في الصحراء الكبرى في الجزائر (حيث يقع حقلا حاسي مسعود وحاسي الرمل) وأدخلته ضمن ممتلكاتها الأخرى في المنطقة؛ وأسست المنظمة المُشتركة للمناطق الصحراوية (OCRS) عام 1957.
إذ كانت الجزائر قد بدأت بالفعل في استراتيجية اقتصادية على الطراز السوفييتي، تستغل إيرادات البترول التي تولدها كلها شركة "سوناطراك" لتمويل المشروعات التنموية، ما جعل الشركة وشبكات المصالح التابعة لها بالأساس بالغة الأهمية لجميع الأطراف السياسية في الجزائر تقريباً.
ونتيجةً لذلك، سرعان ما صارت الشركة هي اللاعب الرئيسي في قطاع الطاقة الجزائري، والمشرف على المراحل الأولية في إنتاج البترول والغاز، والمواد البتروكيميائية، وتوزيع الوقود وعملية التكرير، بالإضافة إلى عددٍ من المهام الرقابية الأخرى.
تدرك "سوناطراك" ومعها وزارة الطاقة والمناجم بوضوح التحديات التي تواجه قطاع الطاقة الجزائري، وكانتا ولا تزالان تحاولان مواجهتها من خلال تمرير تحديثٍ جديد لقانون المواد الهيدروكربونية في البلاد.
ففي يناير الماضي، قيل إن الرئيس التنفيذي السابق للشركة، وهو "عبد المؤمن ولد قدور"، وضع صيغةً نهائية لإصلاحاتٍ تهدف إلى تحسين الشروط المالية القاسية التي فرضتها الجزائر على شركات البترول والغاز الدولية.
لكن حركة الاحتجاجات الجزائرية، متبوعة بعزل بوتفليقة في أبريل 2019، والمسار الغامض للمرحلة الانتقالية بعده، أوقفت مواصلة هذه المجهودات.
وربما كان الأهم من ذلك الضغط المنهجي من جانب قائد الجيش "أحمد قايد صالح" والسلطة القضائية لملاحقة الفساد بين رجال الأعمال وفي "سوناطراك"، الذين يعد كثيرون منهم من المقربين من بوتفليقة.
اقرأ أيضاً.. الجزائر تتهم فرنسا بالمماطلة في تسليم أرشيفها "المهرب"
وفي حال كانت هذه هي الحملة الثالثة التي تُشن على "سوناطراك"، فالراجح أنها ستكون قضية متعمقة وطويلة، وفي تلك الحالة ستؤجل أي إصلاحات جوهرية في قطاع النفط إلى العام المقبل على أقل تقدير.
بمجرد تشكيل حكومةٍ جديدة، سيستمر من يصل إلى السلطة في محاولة إيقاف ذلك التراجع في إنتاج النفط الجزائري، بالإضافة إلى محاولة زيادة إنتاج الغاز من خلال تطبيق الإصلاحات، إذ يظل قطاع الطاقة و"سوناطراك" هو المصدر الرئيسي للثروة الاقتصادية وشبكات المصالح التي ستحتاجها القيادة الجديدة لتوطيد سلطتها.
لكن بصرف النظر عمن سيتولى القيادة، فإن إمكانية تطور هيكل المشهد السياسي في الجزائر ما زالت محدودة. وبينما يمكن أن تهيمن فصائل السلطة المختلفة على المشهد بصفةٍ دورية، إلا أن النظام سيبقى كما هو على الأرجح، وبالتبعية سيستمر الدور الذي تلعبه "سوناطراك" فيه.
ولهذا السبب، فإن أي إصلاحاتٍ جديدة تطرحها الحكومة الجزائرية الجديدة ستكون مجرد جهودٍ محدودة للغاية، ولن تكون الإصلاحات الشاملة المطلوبة من أجل إعادة قطاع البترول واقتصاد البلاد إلى قوته.
فبالإضافة إلى نفوذها السياسي وقوتها الاقتصادية، تستغل "سوناطراك" نزعةً وطنية تعمل على تخفيف الضغط من أجل زيادة الممتلكات الأجنبية في قطاع البترول والغاز الجزائري.
فعندما أمم "بومدين" قطاع البترول الجزائري عام 1971، بشَّر في البداية بهذه الخطوة باعتبارها آخر حبل يربط الجزائر بفرنسا، مصوراً توطيد "سوناطراك" سلطتها كجزءٍ رئيسي في المرحلة الانتقالية لجزائر ما بعد الثورة، إذ كانت الجزائر بالأساس دولة ثورية، وكانت سوناطراك هي رمز حماسها الثوري.
اقرأ أيضاً..لإساءة استخدام وظيفته.. رئيس الوزراء الجزائري يمثل أمام القضاء
وفي الواقع، لا تزال "سوناطراك" بالنسبة إلى العديد من الجزائريين تذكيراً حياً بالكفاح الثوري الذي شهدته، وخوفها من سرقة ثرواتها النفطية وإرسالها خارج البلاد.
وقد منح ذلك شركة البترول بريقاً أيديولوجياً لا تزال تتمتع به إلى يومنا هذا، تجلى من خلال إعراب الجزائر مؤخراً عن نيتها تعطيل اقتراح كان من شأنه أن يجعل الشركة الفرنسية الضخمة "توتال" أكبر منتج أجنبي للبترول في البلاد.