مازال المشهد قاتماً في السودان وعلى خلفية ذلك أعلنت الخارجية الأميركية تعيين الدبلوماسي السابق دونالد بوث مبعوثا خاصا إلى السودان بهدف "التوصل إلى حل سلمي"، بينما علقت قوى التغيير العصيان المدني "لترتيب أوضاعها".
وأكدت الوزارة أن خطوة تعيين الموفد الجديد تعكس التزام الولايات المتحدة الثابت تجاه الشعب السوداني،و "دونالد بوث" دبلوماسي أميركي سابق ملم بالشؤون الأفريقية، إذ كان سفيرا في دول أفريقية عدة (زامبيا وليبيريا وإثيوبيا) تحت الإدارتين الديمقراطية والجمهورية.
وفي هذا السياق، قالت وكالة السودان للأنباء إن وكيلة وزارة الخارجية السودانية بالإنابة السفيرة إلهام إبراهيم التقت في مكتبها "تيبور ناج" مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية في مستهل زيارته للبلاد التي بدأت اليوم وتستمر حتى غد الخميس.
اقرأ أيضاً.. المعارضة السودانية تطالب بإجراء تحقيق محايد في فض الاعتصام
ونقلت الوكالة عن السفيرة إلهام ترحيبها بزيارة المسؤول الأميركي الرفيع وقدمت له شرحا للتطورات السياسية في البلاد، والجهود الجارية للوصول إلى وفاق على ترتيبات المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة مدنية تؤسس لتحول ديمقراطي كامل.
وقالت الوكالة إن ناج عبر من جهته عن إعجابه البالغ بالثورة السودانية، وأكد أن المجتمع الدولي بأسره يريد النجاح للمساعي الرامية إلى الاتفاق على ترتيبات الفترة الانتقالية وتحقيق التحول الديمقراطي في السودان.
والحياة السياسية والحزبية في السودان مُسيطر عليها لعقود من قِبل الأحزاب التاريخية أو التقليدية، ويُقصد بها الحزبان الكبيران حزب الأمة القومي الذي يقوده الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يقوده محمد عثمان الميرغني، وكلا الحزبين كانت لهما قاعدة جماهيرية تتمثل في طائفة الأنصار في حالة حزب الأمة التي يقودها آل المهدي، وبالنسبة للحزب الاتحادي كانت قاعدته الرئيسية تتمثل في "طائفة الختمية" التي يقودها السادة المراغنة، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال أن هذين الحزبين كانا قد التحقا بهما أعداد من النخبة السودانية والشخصيات القيادية من خارج الانتماء الطائفي للحزبين اللذين كانا يمثلان التيارين الرئيسيين في الحياة السياسية السودانية.
اقرأ ايضاً.. المجلس العسكري السوداني: تم إحباط أكثر من انقلاب ونتحفظ على مجموعتين مختلفتين
وبجوار هذين الحزبين كان هناك ما يسمى الأحزاب الحديثة، أي تلك التي لا تعتمد على الولاءات التقليدية سواء كانت دينية أو قبلية، وأهم هذه الأحزاب كان الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان يعد أقوى حزب شيوعي في المنطقة العربية، ولكن الحزب تعرض لضربة قوية بعد أن دبر انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 ضد نظام حكم نميري، إذ أجريت محاكمات ميدانية سريعة إثر فشل الانقلاب، وأُعدم عدد من القادة التاريخيين للحزب أبرزهم عبد الخالق وجوزيف قرنق والشفيع أحمد الشيخ، وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كان يترأسه نميري، وكانوا من المنتمين للحزب الشيوعي والمشاركين في الانقلاب.
في مقابل الحزب الشيوعي كان يوجد تنظيم الإخوان المسلمين، وكان تنظيما محدودا، إلى أن التحق به الترابي إثر عودته من الدراسة بالخارج في مطلع الستينيات، وقفز به عبر استراتيجية مخططة تعتمد على زيادة العضوية عبر التجنيد في المدارس الثانوية والجامعات وكذلك الاهتمام بالعمل في المجال الاقتصادي، وعبر التلون السياسي والتخفي وراء واجهات تبدو محايدة أو ذات أفق وطني، إلى أن أصبح ثالث أكبر حزب في السودان (بعد الأمة والاتحادي) في الانتخابات التي أجريت بالسودان عام 1986 عقب الإطاحة بالرئيس الأسبق جعفر نميري في أبريل 1985.
إلى جوار الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين كانت هناك أحزاب أخرى صغيرة تعبر عن الفكر البعثي أو الناصري أو بعض الأحزاب الجهوية، التي ترتكز قواعدها إلى مناطق وإثنيات معينة، مثال الحزب القومي السوداني الذي كان يقوده الأب فيليب عباس غبوش، الذي اعتمد على أصوات منطقة جبال النوبة التي ينحدر منها غبوش، وكذلك بعض الأحزاب الجنوبية وحزب مؤتمر البجا شرقي السودان، ثم برزت الحركة الشعبية لتحرير السودان كحركة مسلحة في 1983.
تغير الخريطة في السودان
مع خروج الترابي من السلطة، بدأ النظام في إحداث نوع من الانفتاح النسبي في الحياة الحزبية، مع الحرص في الوقت نفسه على تفتيت الأحزاب الكبيرة، عبر تغذية الانشقاقات داخلها، وتشجيع بعض العناصر القيادية التي ترتكز إلى تأييد قبلي أو إثني على الخروج وتشكيل أحزاب جديدة، وإمدادها بالمال اللازم لذلك، وتسليط الضوء عليها إعلاميا ثم إدخالها للمشاركة في الحكومة بعد ذلك، لإعطاء الانطباع بأن هناك تعددية وأصواتا أخرى.
فعلى مستوى الحزبين، نجد أنه قد تفرع عن حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي نحو ستة أحزاب، منها "حزب الأمة الإصلاح والتجديد"، الذي يقوده مبارك الفاضل المهدي (ابن عم الصادق المهدي) وحزب الأمة الوطني، الذي يقوده عبد الله مسار، وهو أحد قيادات قبيلة الرزيقات العربية في دارفور، وحزب الأمة الفيدرالي الذي يقوده عبد الله نهار المنتمي إلى قبيلة الزغاوة الدارفورية.
اقرأ أيضاً.. المجلس العسكري السوداني: أنهينا تحقيق فض الاعتصام.. والنتائج السبت
وهذه الأحزاب المنشقة شاركت في حكومات الإنقاذ، بينما ظل حزب الأمة القومي الذي يترأسه الصادق في المعارضة طوال الوقت. وفيما يتعلق بالحزب الاتحادي الديموقراطي الأصل بقيادة محمد عثمان الميرغني فقد تفرعت منه نحو سبعة أحزاب، شارك بعضها في الحكومة، التي شارك فيها الحزب أخيراً، وحصل على موقع مساعد الرئيس وبضعة مقاعد وزارية ونيابية.
في السياق نفسه كان جنوب السودان انفصل في دولة مستقلة عام 2011 إثر أطول حرب أهلية في أفريقيا، وسبق ذلك اندلاع أزمة دارفور عام 2003، وبروز كل من حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، وجرت انشقاقات عدة في هاتين الحركتين وتناسلت منهما عشرات الحركات التي تفاوض النظام للحصول على مكاسب محدودة لقادتها وعضويتها، ثم تندثر بعد هذا.
مرحلة ما بعد البشير
في الوقت الحالي يمكن معرفة الخريطة السياسية في عدة نقاط:
1-قوى الحرية والتغيير
انطلقت شرارة ثورة ديسمبر من مدينة عطبرة شمال الخرطوم، ثم انتقلت إلى العاصمة الخرطوم وباقي المدن السودانية، وقد تولى تجمع المهنيين السودانيين قيادة المظاهرات والمسيرات وتحدد نقاط التجمع وخطوط السير، ثم صدر إعلان قوى الحرية والتغيير في الأول من يناير 2019، ويتكون من 4 قوى رئيسية في داخله، هي تجمع المهنيين وتحالف نداء السودان وتحالف قوى الإجماع الوطني والتجمع الديموقراطي المعارض.
واحتوى الإعلان على مجموعة من البنود الرئيسية، أهمها التنحي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد دون قيد أو شرط، وتشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني تحكم لأربع سنوات، وتضطلع بمجموعة من المهام، فصّلها الإعلان، تدور حول وقف الحرب وإعادة النازحين واللاجئين ووقف التدهور الاقتصادي، وإعادة بناء المنظومة العدلية، وضمان استقلال القضاء، وتحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور.
2-تجمع المهنيين
هو تجمع نقابي غير رسمي تأسس عام 2013 بعد الاحتجاجات في سبتمبر من نفس العام، إلا أن الإعلان الرسمي عنه كان في أغسطس 2018 في ظل تعتيم على أعضائه وهيئاته لأسباب أمنية، ويضم التجمع لجنة الأطباء المركزية وتحالف المحامين الديموقراطيين وشبكة الصحفيين السودانيين ولجنة المعلمين والعديد من الأكاديميين من مهندسين وأساتذة جامعات.
اقرأ أيضاً.. تفاصيل إحباط محاولة انقلاب على المجلس العسكري في السودان.. 86 ضابطا أغلبهم إسلاميون
3-قوى نداء السودان
تشكلت قوى نداء السودان في ديسمبر 2014، في أديس أبابا بإثيوبيا،وضمت عدة أحزاب وحركات سياسية وتنظيمات مدنية معارضة مختلفة أبرزها حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، وحزب المؤتمر السوداني، وعدد من الحركات المسلحة في دارفور أبرزها الجبهة الثورية المسلحة المكونة من "حركة تحرير السودان فصيل مني أركو مناوي"، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، و"الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال".
وقد تكون هذا التحالف بهدف إيجاد حل للأزمة السودانية وتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة البلاد في الفترة الانتقالية، وتتميز قوى نداء السودان بضم الحركات والأحزاب ذات الأيديولوجيات المختلفة من إسلامية ويمينية ويسارية وقومية وشيوعية وغيرها.
4-تحالف قوى الإجماع الوطني
تضم مجموعة من القوى والأحزاب السياسية المعارضة أبرزها "الحزب الشيوعي السوداني"، وحزبي "البعث" و"الناصريين" و"مبادرة المجتمع المدني" والعشرات من منظمات المجتمع المدني.
5-التجمع الاتحادي المعارض
ثمانية فصائل اتحادية أعلنت تكتلها داخل التجمع الاتحادي المعارض، وتضم الوطني الاتحادي الموحد، والحزب الاتحادي الديمقراطي العهد الثاني، والوطني الاتحادي، والاتحادي الموحد، والحركة الاتحادية، والاتحاديين الأحرار، والتيار الحر، واتحاديين معارضين لا ينتمون لأيٍّ من الأحزاب المذكورة.
وبزغ التجمع إلى النور في 30 يناير 2018 بقاعدةٍ وحيدة راسخة (لا حوار مع البشير مهما كانت الدواعي)،وأهدافه تتلخص في خطوتين، أولهما إسقاط نظام البشير، والثانية لإنجاز الأولى يجب تحضير الجماهير واستنفار القواعد الشعبية لتمتلك وعياً ورغبةً للمشاركة في إسقاطه.
القوى المشاركة في النظام السابق:
حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وقد أصدر المجلس العسكري الانتقالي قرارا بتسلم الدور والمقار والممتلكات الخاصة بحزب المؤتمر الوطني، ولكن عضويته وقياداته لا تزال كامنة وتعمل في الظل، وكذلك الميليشيات التابعة له مثل الأمن الشعبي والأمن الطلابي، رغم أنه تم حلها رسميا، وقيادات المؤتمر الوطني الذين هم في الأساس من كبار قيادات الجبهة الإسلامية، لم يعودوا يظهرون إلى العلن ولكن هناك إجماعا على أن لهم دورا في تحريك الأحداث عبر عضويتهم في جهاز الأمن والشرطة والقوات المسلحة وأيضا داخل المجلس العسكري الانتقالي، وقد أقيل ثلاثة أعضاء من المجلس الانتقالي بسبب ما أثير من لغط كثير بشأن ارتباطاتهم التنظيمية هذه.
المؤتمر الشعبي الذي كان معارضا لحزب المؤتمر الوطني، لأنه يحمّله مسؤولية الانشقاق الذي حدث في عام 2000، وكذلك وزر إبعاد الترابي ومعاملته بطريقة غير لائقة، ولكن الحزب اضطر في نهاية المطاف، وفي وجود الترابي نفسه إلى الانضمام للحوار الوطني، ثم شارك في الحكومة، وظل يسعى في الوقت نفسه لإظهار نفسه معارضا.
حركة الإصلاح الآن، ويتزعمها الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، وقد ظهر الحزب كانشقاق من المؤتمر الوطني، في عام 2013 احتجاجا على الفساد وسوء الإدارة وعدم رشادة السياسات، وانضم إليه عدد من السياسيين الحانقين على حزب المؤتمر الوطني وقادته وسياساته، وانقسامه إلى مجموعات وشلل بسبب الفساد والصراع على المصالح.
1- تحالف القوى الثورية: ويضم بشكل أساسي مجموعة كبيرة من الأحزاب الصغيرة والحركات المسلحة التي كوّنت أحزابا وشاركت في السلطة مع حزب المؤتمر الوطني، وهؤلاء لا يجمعهم هدف سياسي واضح، سوى الدفاع عن مصالحهم وخشيتهم من التعرض للإقصاء أو المساءلة القانونية.
2-قوى نصرة الشريعة: وتتكون بشكل أساسي من أصحاب التوجهات السلفية مثل جماعة أنصار السنة، والمجموعات المتحلقة حول بعض الدعاة مثل عبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم، ومحمد علي الجزولي، وإنْ كان الأخير أكثرهم تطرفاً، ويعد بشكل أو بآخر من أنصار الفكر الداعشي.
المنظومة الأمنية
وتتكون من القوات المسلحة السودانية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، وقوات الدعم السريع، وجهاز الشرطة السودانية، وهذه المنظومة ممثلة في المجلس العسكري الانتقالي، وهي واقعة تحت تأثير قوى النظام القديم وإنْ حاولت أن تبدو أنها قد أطاحت بالبشير انحيازا لمطالب الشعب، غير أن جملة المواقف السياسية التي اتخذتها وتعثرت مفاوضاتها مع تحالف الحرية والتغيير، ثم القيام بعملية فض الاعتصام بالقوة المسلحة بما أسقط أكثر من مائة قتيل ومئات الجرحى، أظهر أنها تلعب أدواراً سياسية لصالح أهداف غير تلك المعلن عنها، وقد أعلن المجلس توجهه لإلغاء كل اتفاقاته السابقة مع تحالف الحرية والتغيير، والتوجه لانتخابات مبكرة خلال 9 أشهر، الأمر الذي كان سيؤدي إلى إعادة قوى النظام السابق إلى السلطة تحت لافتات جديدة، إلا أنه تراجع عن ذلك عقب الصدمة التي أحدثها فض الاعتصام داخليا وإقليميا ودوليا.
وكخلاصة يمكن القول إن الصراع السياسي يدور الآن بين قوى الثورة السودانية التي أسقطت رأس النظام وتريد التحول إلى مرحلة انتقال تؤسس فيها لنظام جديد وبين قوى النظام القديم بتنوعاتها المختلفة، التي تسعى إلى عرقلة مرحلة الانتقال، أو إفشالها والعودة إلى السلطة.