"أن تعيش بلا حياة"، عبارة توصف معاناة أربعة أشقاء، لم يتجاوزوا عمرهم بعد سن الطفولة، تفتحت أعينهم على دنيا حرموا فيها من كل مقومات الحياة، وفرض عليهم منذ نعومة أظافرهم العمل منذ الساعات الأولى للصباح وحتى مغيب الشمس وسط أكوام من القاذورات التي فقدوا بينها آدميتهم، وحتى التعليم الذي هو حق لكل إنسان حرموا منه، وهكذا فرض على هؤلاء الأطفال العيش وسط "مقلب القمامة" بمدينة دكرنس، التابعة لمحافظة الدقهلية.
"حسين، وحازم، وعبده، ويوسف"، هم الأشقاء الأربعة، الذين ولدوا لأب يُدعى "عبد المنعم السيد"، البالغ من العمر 55 عامًا، يعمل منذ سنوات شبابه الأولى نباشًا في "مقلب القمامة" بمدينة دكرنس، وحين رزقه الله بأربعة أطفال اصطحبهم للعمل معه في المقلب، كي يعينوه في العمل ويكونوا له سندًا، مؤثرًا حرمان أطفاله من كل مقومات الحياة تحت ذريعة "العين بصيرة، والإيد قصيرة".
اقرأ أيضًا.. رئيس حي غرب المنصورة يحمل القمامة وينظف منزل "سيدة مسنة"
عشة من الخشب
ليس الحرمان من التعليم هو المأساة الوحيدة في حياة الأطفال الأربعة؛ فالمسكن الذي يعيشون فيه لا يصلح مأوى لأي إنسان، فقد أقام الأب لأسرته "عشة" صغيرة من الخشب والأقمشة البالية، بجوار المقابر التي تقع في أطراف المدينة وبعيدًا عن أي بشر، وهذا جزء آخر من معاناة هؤلاء الصغار؛ فهم يعيشون ساعات من الرعب يوميًا طوال الليل، بسبب بقائهم في هذا الخلاء المرعب، خاصة وأن الأب اعتاد السهر وتركهم بمفردهم لساعات متأخرة من الليل.
"اصحوا عشان نروح نشوف رزقنا ونفرز الزبالة"، على هذه الجملة التي يصرخ بها الأب، يستيقظ الأطفال الأربعة، يوميًا قبل شروق الشمس، ولأن العشة التي يسكنون بها خالية من أي مرافق؛ يضطر الأطفال للمشي مسافة تتجاوز الـ200 مترًا لقضاء حاجتهم في حمام عمومي، ثم يعودون للذهاب مع والدهم إلى مقلب القمامة ويبدأو عملًا شاقًا لا ينتهي إلا مع غروب الشمس.
بملامح أخفى الشقاء براءة الطفولة منها؛ يصف "حسين"، أكبر الأشقاء الأربعة عمرًا؛ إذ يبلغ 13 عامًا، حرمانه من التعليم بـ"الشيء المأساوي"، قائلًا: "أبويا رفض يوديني المدرسة، وقالي لازم تطلع زيي، وأنا كان نفسي اتعلم زي باقي زمايلي اللي بشوفهم رايحين المدرسة كل يوم، بس خلاص اتكتب علينا نبقى فرازين زبالة، وكل يوم نصحى من النوم الفجر ونطلع على مقلب الزبالة ونفضل نشتغل لحد المغرب، وبعدها نرجع العشة عشان ننام، وكل يوم في نفس الحال".
ضيق ذات اليد
"حسين"، يضيف لـ"أهل مصر": "من صغري كنت بحلم إني أصحى من النوم على صوت أمي، وهي بتقولي قوم يالا عشان تروح المدرسة، بس عمري ما سمعت غير صوت أبويا وهو بيزعق: اصحوا عشان نروح نشوف رزقنا ونفرز الزبالة، وكتير قلت لأبويا عايز أروح المدرسة زي باقي زمايلي، ودايمًا بيكون رده: مش هقدر أعلمكم، لأن ظروفي متسمحش، وكويس إني قادر أوفر لكم اللقمة اللي تاكلوها".
اقرأ أيضًا.. رئيس حى بالمنصورة يغلق الأبواب على الموظفين ويجري لهم "تحليل مخدرات" بالقوة
يعتبر الأب، أن السبب في حرمان أبنائه من التعليم، وعدم توفير حياة كريمة لهم، هو ضيق ذات اليد، التي جعلته مضطرًا لتعليم صغاره مهنة فرز القمامة التي ورثها عن والده، إذ يقول في حديثه لـ"أهل مصر": "أنا ورثت المهنة دي من أبويا، وكان نفسي أعلم ولادي و اربيهم احسن تربيه، بس مقدرش أصرف عليهم كلهم ووديهم المدارس، لأن التعليم عايز لبس ومصاريف وأنا مش معايا حاجة، لأني يدوب بقدر أوفر مصاريف الأكل والشرب".
يعترف الأب، بأنه ألحق بأبنائه الصغار ضررًا كبيرًا بسبب حرمانهم من التعليم وانتهاك برائتهم حين أجبرهم على العمل في فرز القمامة، إذ يقول: "أعلم أني ظلمت أبنائي، وكنت بتمنى إنهم يكونوا أفضل الناس، بس العين بصيرة والإيد قصيرة، ولازم أخليهم ينزلوا معايا الشغل عشان يساعدوني في مصاريف البيت".