الحياة شفرة مميتة، دواؤها الإنسانية، هذا المعني هو ما استشعرته وأشرق بخاطرى بعد فراغي من مطالعة مجموعة قصص "موعد للفراق"، للقاص حسام أبوالعلا، ويبزغ هذا المعنى منذ الطرقة الأولى على باب المجموعة القصصية عبر علامة الكتاب الإبداعي الكلية، "العنوان" الذي يحمل حديه التناقض، فهو موعد تتحقق فيه حلاوة اللقاء، لكن سرعان ما يكون هو نفسه التوقيت المضروب لذوق مرارة الفراق، أي عند الذروة يحدث السقوط، فما أن يتم اللقاء حتى يجري فضه سريعًا، وكأن اللقاء ذاته ما كان إلا لحصاد الألم المصفي حيث بلوغ قمته، فالسقوط من حالق وبعد مثول الأمنية للتحقق والشروق في أرض الواقع، يفوق بمراحل ألم الحرمان ويأس المنقطع عن اللقاء المنشود.
بالتالى يحمل العنوان إطار الأسى، ويغلف أفق التلقي قبل الشروع في القراءة، حيث سرعة نحر السعادة، فهي قصيرة الوقت، وكأن ضمير القصص تمثل القول عن الدنيا من الدنو أنها "كلما أينعت نعت"، لذلك يعمر القاموس القصصي بمفردات وعبارات من نوع "وفجأة"، "مفاجأة"، "تدهورت".
وفي قصة "عش صغير" بعد فترة من السعادة الزوجية تقول الزوجة التعيسة بطلة القصة: "وفي صدمة لم أتوقعها بدأت تجف ينابيع مشاعره" (ص 81)، "البعد أرحم من قرب مؤلم" (ص 83)، "واشتياق مغموس في بوتقة الاحتياج"، "التقلب علي جمر الوجع" (ص 86).
وفي قصة "عطر منديلها" أستاذ جامعي يطلق زوجته الفارغة المادية، وتجف ينابيع إحساسه في انتكاسة مشاعره، ويقاوم اختراق قلبه سنوات، حتي يلتقي بالباحثه البرئية الخجول "خلود"، وحين يشتعل قنديل محبته ويحيا قلبه من جديد، ويقترب من فتاته ينشد الوصال، إذا بها ترحل عن الحياة، وتمنحه منديلها مغموسًا بالدموع والعطر.
خواتيم القصص تتباين بين الشفرات الحادة والآمال المشرعة، لكنها تحمل قيما إنسانية وأفعالا بارة كريمة يقصد لها ضمير القصص ويثمرها وينشدها ويدعو إليها، ويضعها في إطار التلقي
وفي قصة "باقة ورد" السارد البطل يعاني العزلة حيث أحب فتاة فقيرة "شبيهة روحه" لكنها توفيت في حادث سير وهي تستعد للعرس: "الدماء المسفوكة على قارعة الأيام" (ص 63)، "السقوط في حضيض الوجع".
وفي قصة "ابن التربي" الذي أراد أن يفر من عمل أبيه بعد وفاته، ثم عاد إليه في خاتمة القصة، فعمله أهون من ذل أمه وذله، وتخبر القصة أن التمرد على المصير منحور لا محالة.
فالقصص صريحة في عرض قسوة الحياة بدون مواربة أو تجميل، ورغم ذلك لا تتركنا دون أن تصف الدواء في بث التعاطف الإنساني الكريم مع المهمشين والجرحي، ورؤية أؤيدها حول أن القصة القصيرة قيمة إنسانية قبل أن تكون قيمة لسانية.
وتعتنق القصص البساطة التعبيرية، فليست موغلة في غموض، لكنها منسابة، متعاطفة مع الإنسان في محنة الجحود التى تعصف به، تستعمل ضميرا ذاتيا حميميا في الحكي – ما عدا قصة واحدة - وتتعاطف القصص مع الضعفاء والهامش الاجتماعي المسحوق: "رجال وشباب شاردين تظهر على ملامحهم علامات البؤس" (ص 21)، فالسارد على الدوام يمثل دور المراقب الذي نرى بعيونه المأساة، وهو مركز التعاطف في القصص ويساهم بأفعال نيرة لرفع الظلم وتخفيف المعاناة، فهو الشاهد والمفسر والمحقق والإنسان.
في قصة "هي وأبناؤها" امرأة مسكينة تلقى الجحود من الأبناء فصبت عطفها على الحيوان: "منذ أعوام وفي طريقي إلي العمل أراها في ذات المكان لم يغب يومًا تجلس القرفصاء تحت أحد الكباري وحولها علب طعام وقوارير مياه وعشرات الكلاب المشردة تطعمهم وتسقيهم بحب"، فأم يونس مثلها مثل الكلاب الضالة المؤنسنة تمارس الفعل النبيل، وعندما أراد السارد أن يشاركها عطفها على الحيوان رحلت عن الدنيا.
وفي قصة "عصا معوجة" السادر المنهوك الذي نفدت طاقته، يلتقي العجوز الأم المظلومة التي تذرف دموع الألم وتطلب المساعدة، فتعاطف معها رغم ضعفه: "فغسلت دموعها أدران روحي" (ص 7)، وحين حاول معاونتها والمطالبة بحقوقها من أبنائها الجاحدين بطشوا به، فكانت العصا المعوجة في الخاتمة المعادل الموضوعي للإنسان المتعاطف رغم جراحه، حيث "اتكئ عليها" ومشى مع العجوز يقتسم الفطائر الطازجة.
القصص ممتدة زمنيًا – بعضها بالأعمار - لكنها تنتقى لحظات مفصلية بعينها تمثل منعطف اللقاء / الفراق في آن واحد. ففي القصة الموسومة بالعنوان الرئيس "موعد للفراق"، حيث الحبيبة تدعو بطل القصة للقاء بعد فراقها له منذ سبع سنوات، حيث كان اختيارها نحر حبها الكبير من أجل العريس الثرى: "باغتت قلبى الحزين الذى تعود على غيابها" (ص 15)، وفي اللقاء لا يجد سوى تجدد الجرح فهى لم تتذكر أي ذكرى جميلة أو تبد تقديرا لها: "حديث أنهكني وعمق جراحي" (ص 17)، فكان قراره بتمزيق صفحتها من كتاب حياته بعد اكتشافه كذبها ولقائها بآخر.
وفي قصة "البقاء لله" نجد تجهيزا مطولًا لعقد لقاء بين حبيبين بعد الفراق المزمن لعقدين من الزمن، وتحكي نبيلة لحبيبها القديم أنها "أرغمت على الزواج، وتعلن تعلقها به من جديد، لكنه يرعى حق زوجته الملائكية، ويحسم اختياره، فكان اللقاء الأول والأخير، فكأن عنوان القصة (البقاء لله) في حب قديم.
وهنا ملاحظة مهمة، أن القصص تنحر فكرة "ضيق التنفس الاجتماعي"، وتوحش "أخلاق الزحام"، فهؤلاء البسطاء الجرحي الذين يحيون ضوائق لاهبة، ويسحقهم الفقر والجحود، هم نبلاء رغم القسوة، لم تثمر في نفوسهم الغضب المحرق للآخر، بالعكس زادتهم رحمة وعطاء، إن القصص تلمس المنبع الإنساني النبيل في الفطرة النقية لقطاع من شعبنا المصري الكريم. ففي قصة "ربنا يسامحك" بائع المناديل الصغير توصيه أمه أن يكون رحيمًا ويرد القسوة بالعطف وقد كان طبقًا لخبر القصة.
وفي قصة "سائق الحنطور"، نجد السارد المأزوم المحتاج للمال من أجل تزويج ابنه، يرصد التباين الاجتماعي لسهرة تضم أثرياء: "قيمة سهرة واحدة تكفى لحل المشكلة التي تؤرقني" (ص 39)، فيملأه الحقد، ثم سرعان ما يرتد لطبيعته الخيرية فيعطف على طفل مقهور في الطريق يبطش به رجل قوي، وحين يقاومه يبطش به أيضًا، لكنه يكتسب معنويات عالية من فعل المقاومة، ثم حين عاد ولم يدبر المال لتزويج ابنه وجد زوجته تبكي وأمامها شبكة العروس! " "
مفارقة حادة في الخاتمة مثلت شفرة مميتة مثل قصة "سور عال" حيث التوجس وخوف المستقبل، تقول بطلة القصة: "وشعرت بأن الأيام القادمة ستصعقني بمصيبة"، عن زوجة بين الرمضاء والنار تسعى، بين غربة قاسية مع زوج جشع، وخوفها من شماتة زوجة الأب المرأة البغيضة، ثم يعتصرها الغدر كأفعي تلتقم ضحيتها بلذة مفرطة. وبالقصة لمحة لفكرة مدن الأسوار: "وصلت بصعوبة، فبيتهم الجديد في منطقة لا يسكنها إلا الأثرياء ومحاط بسور عال".
وهنا نقف عند خواتيم القصص التي غالبًا ما تكون لحظة حاسمة ملخصة منتقاة من أفق حياة عريضة قاسية، وسر قوة القصص في تأويلي الخواتيم للمفارقات الحادة التي تحدث من انكسارات خيوط الحكي، ففي قصة "قطعة جاتوة" طفل يفتقد الأمان ويستشعر تنمر الجميع به، يأكل بقايا الطعام من سلال القمامة، ويحلم بقطعة جاتوة بالشيكولاته، وعندما يتعاطف معه السارد ويؤسس فعل الخير، تتركه خطيبته: "كانت شرارة الغضب تتطاير من وجهها" ثم رحيلها وفسخها الخطوبة لأمر هين، وهنا تبلغ المأساة قمتها بأن من يتعاطف مع الطفل المهمش يلقى جزاءه الفوري، وكأن الطفل مأساة متحركة تمس كل إنسان متحقق بحصيلتها الشائكة من الألم. لكن يمكن تدشين لتأويل آخر بان طبيعة السارد الطيب لا تتفق مع فتاة يؤذيها تضحية بسيطة من أجل فعل إنساني كريم، فخير له أن تفارقه. وهنا نجد مفهوم "ما بعد القصة" في أفق التلقي.
في كل قصة مأساة وظلالها الاجتماعية لا تخفي عن لبيب، إنه تشريح القصص للواقعية الاجتماعية، ففي قصة "الغريب" الذي سافر ثم جحده أهله لطلبهم المال أكثر من طلبهم الإنسان: "سنوات البعد فجرت بيننا وأولادنا انهارًا من الجفاء" (ص 76).
وفي قصة "الوقت الضائع" نقد ظاهرة محرقة المطلقة الاجتماعية، وتفريط أشباه الرجال في فلذات أكبادهم، ثم حين تحضر السعادة و"لملمة الآلام" بتعبير القصة يكون الوقت ضائعًا. وفي قصة "ديك البرابر" قضية التفضيل الاجتماعي للابن وممارسة فعل وأد نفسي للبنات، فالوالد المفتون بالابن يبرر للابن مواقفه المخزية، فيحصد عقوقه ذلا، لكن يشرق المعني الكريم "أعف عمن ظلمك" بالابنة التي تسعف والدها رغم جحوده أياها. هذه الأفعال الكريمة، صدى أنغام شجية لعزف الفطرة علي وتر الإنسانية رغم الوجع هو سر جمالية السرد الإنساني في القصص.
ورغم المآسي الاجتماعية بالقصص نجد قصص منها تشرق بالأمل، ففي قصة "مأتم كبير" نجد الخاتمة التي شكلت مفارقة مع العنوان، حيث الشروع في فتح نافذة للأمل من وسط الأحزان. وفي قصة "جميلة" عن البطلة المريضة التي لاقت كل ألوان المصائب فوالدها قتله جاره عندما ضبطه بفعل الخيانة مع زوجته، وزوجها خانها مع صديقتها، ثم سلبها حقوقها وطلقها وأدخلها بنفوذه مشفي الأمراض العقلية وحرمها ابنها، ثم رغم شناعة المآسى نجد الأمل في الخاتمة حين يلتقي بها ابنها ويبر بها.
وهكذا تتباين خواتيم القصص بين الشفرات الحادة والآمال المشرعة، لكنها تحمل قيما إنسانية وأفعالا بارة كريمة يقصد لها ضمير القصص ويثمرها وينشدها ويدعو إليها، ويضعها في إطار التلقي.