تابعتُ مثل ملايين غيري تلك الضجة المُثارة حول هدم مجسم «مفتاح الحياة» بميدان مرحبا أمام معبد الأقصر، والحقيقة أنني لم أُصدم بتعليقات المؤيدين الذين فرّغوا القضية من محتواها الرئيس ونقلوها من مجرد خلاف بين علماء الآثار ومحافظ الأقصر، إلى قضية ذات مدلول ديني، وراحوا يهللون ويكبرون لإزالة المجسم الذي يرمز لـ«الصليب» - وفق منظورهم الأصولي -، معتبرين أن ما حدث انتصارٌ للإسلام وحماية لـ«بيضة الدين».
اقرأ أيضًا.. الوصاية الدينية.. و"برنيطة" الإمام
وأمام هذا «التدين» الذي اعتاد البعض الزج به في كل مظاهرنا الحياتية دون داعٍ، وجب أن نتوقف قليلًا لنسأل: هل بالفعل يُوجب الدين الإسلامي على أتباعه إزالة أي رمز للأديان السماوية الأخرى ويأمرهم بالتضييق على أهل الكتاب واستفزاز مشاعرهم؟
الإجابة على هذا السؤال لا تحتاج إلى بحث مضنٍ؛ فيكفي أن نذهب إلى المدينة المنورة مأوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستقرّه بعد الهجرة لنقف على حقيقة الأمر وصحيح التشريع.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (1 - 3)
نحن الآن جلوسٌ بين يدي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وصلاة العصر يوشك أن يُؤذَّن لها، وإذا بوفدٍ من نصارى نجران يدلفون إلى المسجد النبوي. يبدو من ثيابهم والصلبان التي يحملونها في أعناقهم أن جميعهم من القساوسة (عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأردية).
حضر هذا الوفد إلى المدينة المنورة في العام المعروف بـ«عام الوفود». دخل القساوسة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا إليه يتباهلون ثم أُذِّن لصلاة العصر؛ فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب ليؤم أصحابه في الصلاة. وعاد عقب أن فرغ من الصلاة ليكمل «المباهلة»، ثم مضى وقت قصير واستأذن أعضاء الوفد الكنسي قائلين: هذا وقت صلاتنا وسنذهب لنصلي خارج المدينة ثم نعود فنكمل المناظرة.. فهل أذن لهم نبي الإسلام؟
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (2 - 3)
لا. لم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج من المسجد النبوي، وقال لهم: بل صلوا ها هنا.
تساءل الصحابة الذين كانوا يستفسرون عن كل كبيرة وصغيرة ليتعلموا لا ليجادلوا: أين يصلون يا رسول الله وكيف تسمح لهم بهذا؟
الرسول يجيب بحسم: هنا.. يصلون هنا في مسجدي.
وبالفعل صلى القساوسة. ورفعوا صلبانهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن فرغوا من صلاتهم عادوا وأكملوا المباهلة، وانصرفوا من المدينة وهم لايزالون على نصرانيتهم لم يفارقوها.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (3 - 3)
الرواية السابقة أوردها ابن إسحاق في سيرته، ورواها من طريقه ابن جرير في «التفسير»، والإمام البيهقي في «دلائل النبوة»، عن «محمد بن جعفر بن الزبير»، كما أنها منشورة على الموقع الرسمي لدار الإفتاء المصرية - قسم الفتاوى - رقم: 4121، بتاريخ 6 أغسطس 2017، في معرض رد مفتي الجمهورية على شبهات المتطرفين الزاعمين زورًا وبهتانًا أن الإسلام حرم بناء الكنائس وأمر بالتضييق على أتباع الديانات الأخرى.
ولكل المتنطعين، الذين راحوا يهللون ويكبرون لهدم مجسم مفتاح الحياة في «غزوة الأقصر»، وكأن الزمان عاد بهم فخُيِّلَ إليهم أنهم يطهرون الكعبة المشرفة من أصنام قريش - متناسين عمدًا أو جهلًا - أن هذا المجسم لا يعدو كونه أيقونة فرعونية لها دلالاتها عند المصريين القدماء وهذه الدلالات لا تمت بصلة إلى الصليب الذي يحمله إخوتنا المسيحيون. لكل هؤلاء نقول إن ديننا أوجب علينا حماية الكنائس والدفاع عنها قبل الدفاع عن المساجد، وصدق الله القائل في محكم التنزيل: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا» (الحج: 40).
اقرأ أيضًا.. المجاهرون بالفطرٍ.. وفقه الدواعش!
ويقول الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية: «وجعل القرآن الكريم تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم».
وقد كلفت الشريعة الإسلامية المسلمينَ - والحديث ما زال لفضيلة المفتي - بتوفير الأمان لأهل الكتاب في أداء عبادتهم، وهذا كما يقتضي إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدم أو تخريب، وإعادتها إذا انهدمت أو تخربت، فإنه يقتضي أيضًا جواز السماح لهم ببناء الكنائس وأماكن العبادة عند احتياجهم إلى ذلك؛ فإن الإذنَ في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مَقصودِه، والرضا بالشيء رضًا بما يتولد عنه، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة، منذ العصور الأولى وعهود الصحابة والتابعين وهلم جرًّا؛ وإلا فكيف يُقرّ الإسلام بقاء أهل الكتاب على أديانهم وممارسة شعائرهم ثم يمنعهم من بناء دور العبادة التي يتعبدون فيها عندما يحتاجون ذلك؟!
ولكل المصريين الذين فخخت عقولهم بأفكار سلفية متطرفة ما أنزل الله بها من سلطان، نقول: الأزمة يا سادة لا تكمن في الدين بالمرة. الدين جاء رافعًا راية التسامح والمحبة والتعايش، وقرر أن الاختلاف في العقائد سنة إلهية، ولكنها أزمة عقول اتخذت من آراء بشرية جامدة دينًا رفعوه إلى مرتبة القرآن والسنة النبوية المشرفة، وراحوا يضللون الناس ويحشون أدمغتهم بأن هذه الآراء هي الدين.
الأزمة تكمن في جمود رجال الدين على آراء تراثية جاوزها المكان والزمان، وإصرارهم على الوقوف حجر عثرة أمام أي اتجاه يرنو إلى تجديد الفكر الإسلامي، وستبقى هذه الأزمة قائمة في كل ظرف حياتي يمر بنا ما بقى الجمود والتقليد سيدًا للموقف.