اعتدت حين تصلني رسائل معقبة على ما أطرحه في
مقالاتي، أن أكتفي بنشر مختصر من الرسالة ثم أعقب. لكنني آثرت
نشر هذه الرسالة كاملةً دون تعقيب، فقط اتأمل جمال الحروف المكونة للكلمات، وأبحر معها في
عوالم من المحبة والسعادة.
الرسالة المُعقب كاتبها على مقالي: «غزوة الأقصر ورفع الصليب داخل المسجد النبوي!». وصلتني من المهندس شريف مصطفى، وهو قبل تخصصه في مجال الهندسة الزراعية. شاعر وأديب يمتلك حسًا مرهفًا، والأهم أنه وطني مشغول بقضايا الفكر والتنوير، ويقاتل بقلمه وأطروحاته الفكرية مثل كُثر بغية إخراج مصر من مستنقع الفكر السلفي الوهابي الذي وقعنا في براثنه منذ أربع حقب زمنية مضت فبدل أنوار الكنانة ظلمات، تخبطنا جميعًا في ليلها شَديدُ السَّوادِ.
اقرأ أيضًا.. «غزوة الأقصر» ورفع «الصليب» داخل
المسجد النبوي!
يقول المهندس شريف:
عزيزي محمد.. ياله من صباح جميل يفتح عيونه على
فكرك الراقي. قرأت بتمعنٍ ما كتبته في مقالك الرائع، وأتفق معك تمامًا في هذا الطرح.للأسف سطوة كهنة المعبد - وخاصة المتسلفين منهم - يصيبه الفزع عندما يرى رمزًا دينيًا مخالفًا لمعتقدهم، وكأن المجتمع سيخرج من الدين لمجرد رؤيتهم لهذا الرمز؛ بل إنهم يظنون أن المجتمع قد يسجد له. إنه الجمود يا عزيزي، الذي يطل برأسه من بين المؤلفات التراثية التي مر عليها الزمن ونسختها الحداثة ومعطيات الحياة الحالية.
اقرأ أيضًا.. الوصاية الدينية.. و"برنيطة" الإمام
اسمح لي أن أقص عليك موقفًا حدث معي أثناء دراستي
في السنة النهائية بالجامعة عام 1993، وكنت - وقتذاك - طالبًا بكلية الزراعة جامعة
المنيا: في ذلك العام قمنا برحلة مدتها أسبوع شملت زيارة محافظات الإسكندرية والإسماعيلية
وبورسعيد، وكان معنا زملاء مسيحيين قرروا الذهاب لزيارة دير وادي النطرون بمحافظة
البحيرة؛ فطلبت منهم - أنا واثنين من أصدقائنا المسلمين - مرافقتهم للتعرف على هذا
المكان، وبالفعل ذهبنا معهم بعد أن وجدنا منهم حفاوة بالغةً وترحابٌ أخوي، وأصدقك
القول أنه كان يومًا مشهودًا لم أنساه حتى اليوم.
عقب ذلك، ونحن في طريقنا من الإسكندرية إلى الإسماعيلية،
مررنا بمدينة طنطا، وفيها توقفنا عند مسجد السيد البدوي، وقررنا أن نزور ضريح هذا
العارف الصوفي ونصلي في المسجد؛ فطلب منا أصدقاءنا المسيحيون أن يدخلوا المسجد معنا،
فرحبنا بهم - أنا ونفس الاثنين اللذين زارا معي دير وادي النطرون - أيما ترحاب، واصطحبناهم إلى داخل المسجد، وجلسوا
يشاهدونا ونحن نصلي، وكانت الفرحة تملأ قلوبهم قبل أن تعكسها نظرات عيونهم. وكأن
الأدوار تبدلت؛ فمثلما فرحنا نحن بزيارة دير وادي النطرون، فرحوا هم بزيارة مسجد
السيد البدوي، وخُيلّ إليّ في تلك اللحظات أن سيمفونية محبة مصرية خالصة تدغدغ آذان الدنيا بألحانها.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (1 - 3)
كنا في المسجد يا عزيزي، وقوفًا نصلي وركعًا
نسبح وسجودًا نتضرع ونبتهل؛ إلا أن هذا المشهد الإيماني لم يشفع لنا عند المرافقين
لنا في الرحلة. كانوا مثلنا طلبة في السنة النهائية، ما يعني أنهم محسوبين على
النخبة المثقفة، ولكنها المحبة والتسامح والتعايش إلم تكن متأصلة في النفوس؛ فأي
تعليم وأية ثقافة مهما بلغا لن يصمدا أمام نيران الكراهية والعنصرية. مهما قصصت
عليك فلن أستطيع نقل نظرات الازدراء التي كانت تُطل من أعينهم، وحجم الاستهجان الذي
عانيناه، وكم التعليقات السخيفة الجاهلة التي رشقوا بها مسامعنا - مسلمين ومسيحيين -
لمجرد أننا زرنا الدير، وزار أخوتنا المسجد.
لقد
زرنا الدير؛ فلم نتنصر. وزار أخوتنا المسجد؛ فلم يسلموا. كلُ ما في الأمر أننا
تعاملنا بسجيتنا المصرية التي لم تعرف في يومٍ من الأيام هذه التفرقة العنصرية
البغيضة. واللائمون تعاملوا بما وقر في قلوبهم جراء اعتناق ذلك الفكر البدوي
الوافد إلينا والذي أفسد علينا كل جميل.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (2 - 3)
نحن من زرنا الدير، ونحن من زرنا المسجد. نحن
من ظلت قلوبنا معلقة بمحبة بعضنا بعضًا، وما زلنا على هذه الحال حتى اليوم يجمعنا تواصل
إنساني جميل. أما أولئك المستهجنين فقد انقطعوا عنا منذ يومها حتى الآن.
اقرأ أيضًا.. قتل المرتد.. جريمة لا يعرفها الإسلام (3 - 3)
أعتذر إليك لو أنني أطلت عليك في رسالتي؛ لكن مقالك فتح لي بابًا جميلًا
من الذكريات. محبتي وتقديري العميق لك ولفكرك الراقي.