لا شك أن التدخل العسكري التركي في شمال شرق سوريا هو عدوانا بكل مقاييس القانون الدولي، وانتهاكا صارخا لسيادة دولة مستقلة، واعتداء ظالما على شعب أعزل خلّف له الموت والدمار، لكن يبدو أن جهة ما كانت المستفيد الأكبر من هذا التحرك الغاشم؛ حيث استطاع النظام السوري بزعامة الرئيس بشار الأسد أن يوظف مجريات الأحداث لصالحه بصورة تنبئ باحتمالية إعادة بسط نفوذه على كامل الأراضي السورية كما كان الحال قبل عام 2011، بما يشمل الشمال الشرقي للبلاد حيث يتمتع الأكراد بحكم ذاتي.
وحول ذلك، تقول رابحة علام، الباحثة في الشأن السوري، إن العدوان التركي على أكراد سوريا منح النظام السوري الفرصة للتواجد بمناطق سيطرة الأكراد بالشمال الشرقي للبلاد، وذلك كضمانة لوضع سقف لنفوذ قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، موضحة أنه بعد الاتفاق الأمريكي التركي على وقف إطلاق النار خلال العدوان، وما أعقبه من اتفاق روسي تركي أيضا، انتشرت قوات روسية وسورية في مناطق سيطرة الأكراد، وخاصة في نطاق الشريط الحدودي ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين، فكأنما يتم تقاسم هذه المنطقة بشكل مرحلي على الأقل.
وبشأن ما إذا كانت التطورات الحالية قد تتسبب في فقد الأكراد الوضع السياسي الذي اكتسبوه منذ العام 2011 والذي يتمثل في الإدارة الذاتية للإقليم، رأت الخبيرة بالشأن السوري، في تصريحات خاصة لـ"أهل مصر"، أن النظام الأسدي ليست لديه رغبة في تمديد إدارته المدنية لهذه المناطق، ولكنها توقعت أن يتعاون مع قوات "قسد" كي تكون تلك القوات تحت إدارته.
وحول ما إذا كان هذا التعاون يشمل ضم الوحدات المسلحة الكردية، وعلى رأسها "وحدات حماية الشعب"، إلى الجيش النظامي لتصبح تابعة مباشرة إلى وزارة الدفاع السورية، استبعدت "علام" أن يتمثل ذلك التعاون في ضم الوحدات بشكل كامل، وقالت، إنه يشمل فقط موافقة النظام على وجود بعض التشكيلات الكردية في هذه المنطقة، مضيفة أن النظام ليست لديه رغبة حقيقية للتوسع في الشمال الشرقي، لأنه يفضل السيطرة العسكرية على مناطق أخرى أكثر أهمية بالنسبة له من هذه المنطقة، مشيرة إلى أن هناك نوع من التفاهم بين "قسد" والنظام السوري حول إدارة هذه المنطقة بأقل خسائر ممكنة وبما يجنبها مزيدا من التدخل العسكري العنيف من جانب تركيا.
اقرأ أيضاً: وزير الخارجية الروسي: واشنطن تتطلع لخلق شبه دولة شرقي الفرات
و بشأن ما إذا كان الانتشار العسكري الحالي لقوات النظام بمناطق سيطرة الأكراد، وفقا للتفاهم الذي جرى بينهما عقب العدوان التركي، قد يكون وورقة قوية في يد "بشار" خلال جلسات اللجنة الدستورية التي تضم عناصر من النظام والمعارضة، قالت الباحثة في الشأن السوري، إن الأكراد لم يتم تمثيلهم في اللجنة الدستورية كما ينبغي، ولذا قد يستغل النظام فعلا ذلك ويدّعي أنه يمثل منطقة الشمال الشرقي هذه من خلال الأعضاء الممثلين له في اللجنة، ولكنها استدركت أن عمل هذه اللجنة منفصل بشكل أو بآخر عن الواقع العسكري الحالي، فهي تعكس حالة الخارطة السياسية للقوى السورية، سواء التابعة للنظام أو المعارضة.
اقرأ أيضاً: الأسد: لا يمكن إنهاء الحرب المستمرة في سوريا عبر اللجنة الدستورية
بعد العدوان التركي على أكراد سوريا، برزت أصوات في الداخل تنادي بعودتهم الى ما أسموه "حضن الوطن" والتخلي عن أحلامهم المزعومة بالانفصال أو بإقامة حكم ذاتي في مناطق سيطرتهم، ما يعتبر مكسبا آخرا لنظام "بشار"، وحول احتمالية حدوث ذلك، اعتبرت الباحثة في الشأن السوري أن ذلك حدث بالفعل، خاصة بعد التفاهم الذي توصلوا إليه مع نظام الأسد برعاية الروس لتجنب توسيع العملية العسكرية التركية، مضيفة أنه لا يزال غير معروف تحت أي شروط تم ذلك، فهناك جوانب تقنية كثيرة جدا تتعلق مثلا بالعتاد العسكري لقوات "قسد"، وبإدارة الوضع الأمني بالنسبة للشؤون اليومية، وهذه كلها مهام سبق وأن تخلى عنها النظام كي يصب تركيزه على قتال المعارضة، مشيرة إلى أن النظام لا يرغب في ذلك إلى اليوم، موضحة أن ما حدث هو أنه أراد أن يكون له تمثيل في هذه المنطقة كي يثبت أن التدخل التركي هو عدوان على سيادة الدولة السورية.
اقرأ أيضاً: جاويش أوغلو: تركيا حققت انتصارا عسكريا ودبلوماسيا في سوريا
ولكن حول أي مدى سيمارس النظام هذه السيادة، سواء على مستوى ضبط الوضع الأمني أو على مستوى توفير وسائل المعيشة اليومية لسكان هذه المنطقة، رأت "علام" أنه إلى حد الآن ليس هناك تغيير كبير في الأدوار، فمازال الأكراد يتمتعون بسلطة واسعة، ولكن فيما يتعلق بأمور السيادة، قالت: أعتقد أن النظام السوري موجود، ويرفع علمه، والقوات المتواجدة هناك ترتدي زي الجيش السوري النظامي، معتبرة أن الوضع ينبئ ب"إدارة لا مركزية" في هذه المنطقة تشبه في بعض جوانبها الإدارة الذاتية التي تمتع بها الأكراد.
من العدد الورقي