اختتم الدكتور نظير عياد، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، فعاليات برنامج ورشة عمل " الحفاظ على الكرامة الإنسانية في النزاعات المسلحة في ضوء القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية"، والذي تم بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بإلقاء بيان ختامي حول البرنامج، الذي انعقد على مدار يومين 26/ 27 نوفمبر، بمركز الأزهر الدولي للمؤتمرات.
وإليكم نص البيان الختامي:-
بعد اللقاءات التي تمت أمس واليوم حول ورش العمل التي دارت حول الكرامة الإنسانية في النزاعات المسلحة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، فإن المناقشات الهادفة والموضوعية حول الموضوع قد أكدت على حقيقة جوهرية وواضحة وهي التلاقي بين الشريعة والقانون الدولي فيما يتعلق بالحفاظ على الكرامة الإنسانية في السلم والحرب، كما أنه هناك نقاط أكدت عليها المناقشات والحوارات التي دارت وهي:
التأكيد على صحة ما تناقلته وكالات الأنباء بشأن ما يجري كل يوم ضد الإنسانية من مآسٍ مؤسفة تنتهك فيها الأعراض وتستباح فيها دماء الأبرياء في مشارق الأرض ومغاربها، وهو ما جعل الدول وأحرار العالم تزيد من اهتماماتها بحقوق الإنسان المتعلقة بالنزاعات المسلحة، وإبرام اتفاقيات عدة في محاولة منها للحد من هذه الانتهاكات، كما تعقد الندوات والمؤتمرات الدورية بحثا عن حلول لما أفرزه الواقع العملي من مشكلات، وقد أدت هذه الاتفاقيات إلى إعمال الفكر في القواعد التي تحكم الحرب من بدايتها إلى نهايتها، وكيفية نشأتها، وحقوق الأفراد في حالة نشوبها.
برنامج ورشة عمل "الحفاظ على الكرامة الإنسانية"
وقد شرع الله تعالى للإنسانية دينا واحدا ، وأنزل كتبا اتفقت في معانيها ودلالتها وأهدافها العليا وإن تعددت أبوابها واختلفت أساليبها { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فالدين بتشريعاته المختلفة يؤصل في جوهره وأصوله لحفظ الكرامة الإنسانية ، وهذا التأصيل لم يتغير بتغير الأنبياء ، ولم يتبدل باختلاف الأزمان ،إذ الدين أساسه وهدفه - بعد توحيد الله تعالى والإخلاص له- هو ترسيخ العدالة بين الناس، وتربية الضمير الإنساني ليكون بين الناس قانونا يحكم ، ويلزم ، ويراقب ويحاسب.
بالعودة إلى مصادر التلقي في الشريعة الإسلامية الخاتمة وبالتتبع والاستقراء للتراث الإسلامي الذي أنتجه فقهاء المسلمين الأوائل اعتمادا على الوحيين الشريفين الكتاب والسنة ندرك ومن أول وهلة أن الإسلام بتشريعاته ونظمه ليس دينا يعتقد فحسب ، وإنما هو أيضا نظام قانوني إنساني ، أسس لما أسسته كل الرسالات السماوية والقوانين الوضعية من مبادئ العدل والرحمة وحفظ الكرامة الإنسانية ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ويقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ( الإنسان بنيان الرب ملعون من هدم بنيانه ).
وفاق الإسلام في نظمه وتشريعاته كل القوانين الوضعية الدولية ، خاصة المتعلقة بحقوق الإنسان في الحروب وفي أثناء القتال وبعد انتهائه بمعالجة آثاره، خاصة الحقوق المتعلقة بالأسرى والجرحى والسفراء والمدنيين من العُبَّاد : أصحاب الصوامع ، والكنائس والأطفال ، وكبار السن ، والنساء ، واحترام الإنسان بعد موته ،لأن الحرب في الإسلام لم تشرع رغبة في زهق الأرواح ، وسفك الدماء ، ولا من أجل استخراب العمران، ولا لتدمير البنيان الإنساني والتشييد الحضاري، وإنما لإقامة العدل ،وإيصال الحق، وإزاحة الظلم ، ورد الطغاة، والدفاع عن الضعفاء والأوطان، ونشر الأمن ، والاسقرار والعمران، وإقامة الحضارات، فهي لا تقوم إلا على أساس قضية عادلة ، وهي حالة استثنائية ، وليست قاعدة مباحة.
برنامج ورشة عمل "الحفاظ على الكرامة الإنسانية"
على مدار قرون مديدة تمكن فقهاء المسلمين من إنتاج تراث فقهي مثير للإعجاب في هذا الإطار، حيث يكشف التراث الفقهي الإسلامي العريض والمفصَّل المعنيُّ بتنظيم النزاع المسلح عن أن قدامى الفقهاء كانت في أذهانهم، بدرجة أو أخرى، الفلسفة والمبادئ والأخلاق ذاتها التي ألهمت القانون الدولي الإنساني الحديث، ومن المثير للاهتمام أن التراث الفقهي الإسلامي المتقدِّم ميَّز بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية (على الرغم من أنه لم يستخدم هذه التسمية).
وقد طور الفقهاء المسلمون قواعد قانون الحرب في الإسلام، وهي قواعد تضفي وبصفة أساسية: الصبغة الإنسانية على النزاع المسلح، عن طريق حماية أرواح غير المقاتلين، واحترام كرامة مقاتلي العدو، وحظر إلحاق الضرر بممتلكات العدو إلا إذا فرضت الضرورة العسكرية ذلك، أو حدث الاعتداء دون قصد بوصفه ضررًا جانبيًّا.
وفيما يأتي شيء من التفصيل للمبادئ الإسلامية الأساسية المتعلقة بالنزاعات المسلحة الدولية والتي تتفق بصفة عامة والقانون الدولي الإنساني:
أولا: فيما يتعلق بمبدأ حماية المدنيين ،وهم الأشخاص الذين لا ينتمون إلى القوات المسلحة ،ولا يقاتلون معها، فقد أكد التراث الإسلامي بمصادره المعتمدة ضرورة حصر أعمال القتال في ميدان المعركة ، وأكد تجريم استهداف هذه الفئات من الناس، ،وعده ضربا من الاعتداء الذي يبغضه الله و يبغضه رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»
ورَوَى رَبَاحُ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: اُنْظُرْ عَلَى مَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ فَجَاءَ فَقَالَ: امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدَّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ لِخَالِدٍ: لَا تَقْتُلْ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا»
كما حث النبي صلى الله عليه وسلم جنوده بـ"الا يقتلوا شيخا فانيا ولا راهباً عابداً) وقال لهم " اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا) أي :طفلا.
برنامج ورشة عمل "الحفاظ على الكرامة الإنسانية"
كما يلحق بهذه الفئة فئات أخرى مثل المرضى والمكفوفين والمجانين والزراع والتجار والصناع وغيرهم من المدنيين مالم يشاركوا.
هذا مع ضرورة الحفاظ على الممتلكات والأعيان المدنية والمرافق كالعيون والآبار والأشجار ، والحيوانات، ونحو ذلك .
ومن المثير للاهتمام أن فقهاء قلائل ميَّزوا بين الجماد وذوات الأرواح المملوكة للعدو. فقال الإمام الشافعي (المتوفى في العام 820) إن ذوات الأرواح قادرة على الشعور بالألم، وعلى ذلك فإن أيَّ أذى يلحق بها هو تعذيب لا مبرر له؛ في حين رأى ابن قدامة (المتوفى في العام (1223) أن إلحاق الأذى بذوات الأرواح يقع ضمن حدود الإفساد في الأرض. ولا يباح استهداف الخيل والحيوانات الأخرى في أثناء سير الأعمال القتالية إلا إذا كان جند العدو يمتطيها في أثناء القتال.
كما فصل الفقهاء أحكامًا تتعلق بمسألتين مرتبطتين باستخدام أسلوبين من أساليب شن الحرب قد ينجم عنهما قتل أشخاص مشمولين بالحماية، وإلحاق أضرار بالأعيان المشمولة بالحماية. وهذان الأسلوبان هما: التَّترُّس (أيْ استخدام دروع بشرية). والبيات (أي الإغارة على العدو ليلًا)
والعلة من بحث هذه المسألة– وهي مسألة أثيرت أول ما أثيرت بين النبي وصحابته – هي الحرص على عدم تعريض غير المقاتلين للخطر.
وهذا يتفق تماما مع قانون الحرب ،أو قانون النزاعات المسلحة الدولية الذي أضحى يسمى اليوم بالقانون الدولي الإنساني حيث إنه يرتكز على ثلاث دعامات:
أحدها: التمييز بين العسكريين وغيرهم ، وبين الأهداف العسكرية وغيرها
والدعامة الثانية :أنه لا يجوز الإضرار بالأشخاص المحميين أو الأعيان المحمية ، والدعامة الثالثة : هي التناسب ، فلا حاجة للعنف الزائد ولا للأسلحة عشوائية الأثر التي تسبب معاناة وأضرارا غير لازمة.16. أرشيف اللجنة الدولية.
ثانياً: فيما يتعلق بحماية الأسرى .
من المقرر أن مفهوم الأسرى وفق الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الإنساني حسب اتفاقيات جنيف الأربع 1949هم الأشخاص المقاتلون الذين وقعوا في قبضة العدو ، وهم أهم غنائم الحروب سواء في العصور القديمة أو الحديثة .
وقد نصت اتفاقيات (جنيف ولاهاي) على الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الاسير ، فجعلت للأسير الحق في الاتصال بذويهم ، وبالمنظمات الإنسانية بالوسائل المشروعة كافة، كما أن لهم الحق في مقابلة مندوبي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومن لهم الحق في الذهاب إلى أماكن الأسرى، وانتهاء الأسر فور التوقف عن إطلاق النار، كما لهم الحق في المعاملة الإنسانية مأكلا ومشربا وإيواء، وتريضا وعلاجا، ومحاكمة منصفة، وكل ما يشعرهم بكرامتهم وآدميتهم، كمالا يجوز تعذيبهم أو إكراههم على الاعتراف ، أو استخلاص معلومات .
والشريعة الإسلامية لا تختلف في هذا عما قرره القانون الدولي الإنساني بشأن معاملة الأسرى ، واحترام إنسانيتهم وكرامتهم ، بل وضعت لذلك منهجا إنسانيا راقيا في معاملتهم منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام ، منهج : جوهره وأساسه التكريم ، والمحافظة على كرامة الأسير ، والمحافظة على حياته ، حيث أوجبت إطعامهم وسقايتهم وكسوتهم إن لزم الأمر، وحمايتهم من الحرارة والبرودة والمعاملة القاسية. كما يحرُم الإجهاز على جريحهم أو تعذيبهم لانتزاع معلومات عسكرية، كما أوضح الإمام مالك (المتوفى عام 795م).
وهذا المنهج يقوم على أساس مرجعية قرآنية، ونبوية وتاريخية للإسلام.
فها هو القرآن يعد الأسرى الذين في قلوبهم خير بالعفو والمغفرة حيث يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم}
وحث على المن عليهم بإطلاق سراحهم مجانا فقال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ }
كما مدح إطعام الأسير والعناية به في قوله عز وجل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرا}
والذي تأكده المصادر المعتمدة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ مباني مستقلة لأسرى الحرب، كما هو الحال في الحروب الحديثة، وإنما كان يقوم بتوزيعهم على أصحابه للإقامة معهم في بيوتهم، أو يتم حجزهم في المسجد حتى ينتهي الأسر، وهذا غاية الإكرام.
وبناء على ماسبق يمكن القول بأن حكم الإسلام في الأسرى وفق ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية تتخلص في عناصر ثلاثة .
1- حسن المعاملة الأسرى أكلا وشربا وإيواء بصفة عامة حتى يبت في أمرهم بالمن والعفو أي : بإطلاق سراحهم دون مقابل.
2-الفدية أو الفداء لمن يرجى منه الخير .
3- القتل لمجرمي الحرب.
ثالثا: فيما يتعلق بقتلى الحروب المسلحة ، فإن القانون الدولي الإنساني قد نص على ضرورة احترام قتلى الحروب العسكرية ، الذي قتلوا في بلد هم ليسوا من رعاياها ، وذلك بإلزام الطرفين بدفن تلك الجثث باحترام ، وطبقا لشعائر دين الموتى، وأن يتم دفن كل جثة على حدة، متى أمكن ذلك، ويجب أن تكون المقابر محترمة، ومجمعة تبعا لجنسياتهم ، ومميزة بحيث يمكن الاستدلال عليها ، وذلك وفق إجراءات ملزمة لطرفي النزاع ،وكذا عودة رفات الموتى وأمتعتهم الشخصية إلى وطنهم إلى غير ذلك مما يجسد معاني الكرامة لهؤلاء القتلى، سواء أكانوا عسكريين أو مدنيين، وبغض النظر عن جنسيتهم أو معتقداتهم، أو أصلهم القومي.
والشريعة الإسلامية وإن لم تنص على كل هذه المبادئ بنفس التفاصيل التي نص عليها القانون الدولي الإنساني إلا أنها أسست وأصلت لها ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال منذ أكثر من أربعمائة عام وهو يوصي جنوده ( لا تغدروا ولا تمثلوا) فنهى صلى الله عليه وسلم عن الغدر بالعدو وعن التمثيل بجثث قتلاهم ،بما يحفظ لهذا القتيل كرامته ميتا ، كما حفظت له حيا، والشريعة الإسلامية تحرم التمثيل بجثث الأعداء
والخلاصة أنه الشريعة الإسلامية والقانون الدولي الإنساني متفقان فيما يتعلق بضرورة حماية المدنيين، وإقرار حقوق الأسرى الحروب ،والعمل على حمايتها ، إلا أن الإسلام كان له السبق في كل ذلك.
وأخيرا فإني أوصي المنظمات والمؤسسات كافة على مستوى دول العالم بضرورة تكثيف العناية للوعي بهذه الحقوق باعتبارها قيم إنسانية وحضارية، وذلك من خلال نشرها عن طريق عقد الندوات، وورش العمل في المدارس والجامعات ومراكز الدعوة ودور العبادات وإذاعتها بين العامة عن طريق أفلام تسجيلية ومسلسلات إذاعية و غير ذلك من الوسائل والسبل المتاحة حتى تصبح ثقافة مجتمعية.