يتغير الرؤساء والكهنة والباباوات، وتبقى الكنيسة الأم هي البيت الكبير لأقباط مصر، وتعود قصة إنشاء هذه الكنيسة إلى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي تولى مقاليد الحكم في البلاد بعد الرئيس الأول للجمهورية محمد نجيب.
وكما انتقلت الأمور السياسية من يد حاكم لآخر - بعيدًا عن الخوض في تفاصيل كيفية ذلك- كذلك انتقلت مسؤولية شؤون الكنيسة، بعد وفاة الأنبا يوساب الثاني الـ 115 – الذي صاحبت وفاته روايات متعددة بأن تم احتجازه في المستشفى- حتى تولى الأنبا كيرلس السادس كرسي الباباوية في العاشر من مايو عام ١٩٥٩م حيث تم سيامة الأنبا بحضور مندوب الإمبراطور هيلاسلاسي إمبراطور أثيوبيا فى ذلك الوقت، وحضر محمد أنور السادات بالنيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر.
«الكنيسة والسياسية قبل عهد عبد الناصر»
ذكر المؤرخون أن الكنيسة قبل ثورة 23 يوليو لم يكن لها دور في الحياة السياسية، حيث كان تمثيلهم النيابي أو الممارسة السياسية باعتبارهم مواطنين مصريين دون النظر إلى الديانة، أو من خلال الأحزاب السياسية، ومع ثورة يوليو، باركت الكنيسة الثورة باعتبارها مطلب شعبي من المصريين عامة، ولكن تبعات أحداث الثورة خاصة مع تولي الرئيس عبد الناصر غيرت فقه الكنيسة تجاه السياسية.
ومع إلغاء الرئيس جمال عبد الناصر للأحزاب السياسية، لم يعد للأقباط دور في الحياة السياسية، خاصة في ظل تنامي قوة جماعة الإخوان المسلمين، حتى أنه لم ينجح أي قبطي رشح نفسه للانتخابات في تلك الفترة، ما استدعى عبد الناصر في عام 1964 لاتباع أسلوب جديد بحيث يتم قفل 10 دوائر على الترشح للأقباط فقط وظل تطبيق هذا النظام حتى عام 1979- ولأنه لم يكن ذو نتيجة مؤثرة في التمثيل القبطي- صدر مبدأ دستوري بأن يكون للرئيس صلاحية تعيين عشرة أعضاء بمجلس النواب، وكان أغلب هؤلاء المعينين من الأقباط، حتى أصبح لعشرة أقباط، وكان الإختيار يتم وفق معايير الولاء للنظام وعبر التقارير الأمنية من عناصر غير معروف عنها المواقف النقدية.
«علاقة عبد الناصر بالبابا كيرلس»بعد سيامة البابا كيرلس الثاني كبابا للإسكندرية، لم تكن العلاقة بين البابا والرئيس تسير وفقًا لما يجب – وهو ما أرجعته بعض المواقع القبطية إلى خلفية جمال عبد الناصر المتعلقة بالإخوان المسلمين- حتى أن موقع البابا كيرلس ذكر انه طلب مقابلة الرئيس أكثر من 10 مرات ليطرح عليه قضايا الأقباط، إلا أنه لم يلق ترحيب من الرئيس، إلا أن نقطة محورية غيرت مسار تلك العلاقة حتى أصبح البابا صديقًا لعبد الناصر.«ابنة عبد الناصر.. لغز الصداقة»في الثانية صباحًا، طرق صديق للبابا باب الكنيسة، مترجيًا أن يحضر معه إلى منزل الرئيس جمال عبد الناصر، لأن ابنة الرئيس تعاني من آلام وصفها الأطباء بأنها غير عضوية، وكان من المتوقع ان يرفض البابا الذهاب خاصة بعد لقاء فاتر وقع بين الرئيس والبابا، إلا أن البابا كيرلس السادس، ذهب لابنة الرئيس، ودخل مباشرة على حجرة أبنة جمال عبد الناصر المريضة وقال لها مبتسماً : إنت ولا عيانة ولا حاجة، وصلى لها ربع ساعة، وصرف الروح النجس وعادت الأبنة إلى طبيعتها تماماً.
لتكون تلك الواقعة نقطة تحول في علاقة البابا بعبد الناصر، حتى أنه قال للبابا : "البيت ده بيتك وتيجى فى أى وقت أنت عاوزه".حتى أن الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل وثق تلك العلاقة في كتابه "خريف الغضب" قائلًا: "كانت العلاقات بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة، وكان بينهما إعجاب متبادل، وكان معروفاً أن البطريرك يستطيع مقابلة عبد الناصر في أي وقت يشاء، وكان البابا كيرلس حريصاً على تجنب المشاكل, وقد استفاد كثيراً من علاقته الخاصة بعبد الناصر في حل مشاكل عديدة".«أول هبات الصداقة.. كاتدرائية»بعد التحول الدراماتيكي في العلاقة بين البابا والرئيس، والتي أصبحت صداقة متبادلة، تطوق البابا كيرلس السادس لبناء كاتدرائية للأقباط في مصر، ولم يكن المهاجرين الأقباط الجدد بعد فى موقف يسمح لهم بمد يد المساعدة السخية، ثم أن أوقاف الأديرة القبطية أثرت فيها قوانين إلغاء الأوقاف, وهكذا وجد البطريرك نفسه فى مأزق ولكنه تحرج من مفاتحة عبد الناصر في الامر، حتى طلب من الراحل محمد حسنين هيكل الوساطة عند الرئيس ومفاتحته في الأمر.
وقال هيكل عن أمر الكاتدرائية: "عندما تحدثت مع الرئيس عبد الناصر في هذا الموضوع، كان تفهمه كاملاً، كان يرى أهمية وحقوق أقباط مصر في التركيب الإنساني والإجتماعي لشعبها الواحد، ثم أنه كان يدرك المركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسي في التاريخ المصري ثم أنه كان واعياً بمحاولات الاستقطاب التي نشط لها مجلس الكنائس العالمي وهكذا فإنه قرر على الفور أن تساهم الدولة بنصف مليون جنية في بناء الكاتدرائية الجديدة, نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يقدم عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام والتي يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء.وطلب إلى الرئيس إبلاغ البطريرك بقراره، وكان الرجل شديد السعادة عندما قمت بإبلاغه إلى درجة أنه طلب إلى اثنين من الأساقفة، أحدهما الأنبا صموئيل، أن يقيما قداس في بيتي، وكان بالغ الرقة حين قال: "إن بركات الرب تشمل الكل، أقباطاً ومسلمين" وتم بناء الكاتدرائية وحضر جمال عبد الناصر احتفال افتتاحها".
«صداقة حتى الموت»ظهر تأثير صداقة البابا وعبد الناصر عندما قرر الرئيس التنحي عن السلطة في يونيو 1967 م بعد نكسة 5 يونيو وهزيمة الجيش المصري، فذهب البابا إلى منزل عبد الناصر، ولم يستطع الوصول إلى المنزل بسبب الحشود التي تجمعت لمطالبة عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحي، فصدرت تعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة تابعة للقوات المسلحة بفتح الطريق أمام سيارة البابا، ولأن عبد الناصر كان مريضًا ولم يستطع مقابلة البابا، تحدثا هاتفيًا وقال البابا:"عاوز أسمع منك وعد واحد.. الشعب بيأمرك أنك متتنازلش"، فقال له الرئيس : " وأنا عند أمر الشعب وأمرك".وغادر البابا بيت الرئيس وفي طريق عودته طلب الاستعداد لضرب الأجراس، وبعد قليل أعلن أنور السادات رئيس مجلس الأمة : أن الرئيس جمال عبد الناصر نزل عن إرادة الشعب، وبعد أحداث نكسة 67، أمر البابا كيرلس السادس بأن تصلي الكنيسة من أجل الرئيس والشعب والقوات المسلحة، علقت الإذاعة الإسرائيلية على إقامة الصلوات: " أبشر يا عبد الناصر، فإن معك كيرلس السادس - أما نحن فمعنا الأسطول السادس".«وفاة عبد الناصر وصديقه»استمرت صداقة عبد الناصر والبابا حتى وفاة الرئيس في 1970، وتلقى البابا كيرلس السادس نبأ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بحزن شديد، وأصدر بياناً إلى الأمة يعبر فيه عن شعوره قال فيه : "إن جمال لم يمت ولن يموت، أنه صنع في مدى عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله في قرون، وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطاً باسم البطل المناضل الشجاع الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه ويشهدوا بأنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحكته , وبعد نظره وسماحته ومحبته وقوة إيمانه بمبادئ الحق والعدل والسلام".وبعد وفاة عبد الناصر بعام توفي الأنبا كيرلس الساس عام 1971، حتى أن إذاعة صوت العرب قالت عنه: لقد مات الصديق الوفي لجمال عبد الناصر".«أقباط المهجر»كان القضاء على الإقطاعية أحد مبادئ عبد الناصر، واتبع سياسة التأميم بدءًا من قناة السويس، وحتى أن بعض الأقباط اتهموا عبد الناصر بأنه جرد الأغنياء الأقباط من مصانعهم وممتلكاتهم ما أثر على الطبقة التي تسهم في التبرع للكنيسة، كما ظهرت في عهد عبد الناصر ظاهرة هجرة الأقباط إلى البلاد الأوربية وأكثرها الولايات المتحدة الأمريكية، بما سمي بـ «أقباط المهجر».«تقارب البابا بعيدًا عن الأقباط»يرى بعض الأقباط، أن هذا التقارب بين الكنيسة والرئيس عبد الناصر، كان على المستويات العليا فقط، وبحسب مواقع قبطية، قالت الدكتورة منى مكرم عبيد ابنة القيادة القبطية التاريخية مكرم عبيد– في تصريحات لها، أن الثورة وظفت الدين لخدمة شرعيتها السياسية بدلاً من الاعتماد على الإنجاز كمصدر لهذه الشرعية ،غير أن أخطر قرار أصدره عبد الناصر في مجرى صراعه مع الإخوان المسلمين كان تدريس الدين في مختلف مراحل التعليم، ورغم أن هذا القرار قد يكون عاديًّا ومشروعًا باعتباره يؤدى إلى دعم الجوانب الروحية لدى الطلاب، إلا أن ذلك كان يتحقق فقط في ظل وجود كوادر مدربة جيدًا لهذه المهمة، ولكن من قام بتدريس الدين أشخاص لا تتوافر فيهم المقومات الكافية من حيث الفهم الصحيح لجوهره؛ ولذلك كانت نتيجة هذا القرار تعميق أوجه التمايز بين أبناء الأمة المصرية، وتزامن ذلك مع تقلص النفوذ السياسي والاقتصادي للأقباط بسبب إجراءات التأميم التي طالت الكثيرين منهم، هذا فضلاً عن اعتماد النظام على أهل الثقة في تولي المناصب الرئيسية، مما أدى إلى هجرة عدد كبير منهم إلى الخارج وعزوف الموجودين بالداخل عن ممارسة حقوقهم السياسية أو الانخراط في العملية السياسية في ظل مناخ غير ديموقراطي. وقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك أنه في انتخابات عام 1957م لم يفز قبطي واحد، فلجأ جمال إلى أسلوب الدوائر المغلقة، حيث تم اختيار عشرة دوائر بدقة وقصرها على مرشحين أقباط، غير أن هذا الأسلوب لم ينجح… ولذلك ابتكر النظام فكرة التعيين حيث سمح الدستور لرئيس الدولة بتعيين عشرة نواب، روعي أن يكونوا كلهم أو معظمهم من الأقباط، مما تسبب في تولد الشعور لدى قطاعات كثيرة من الأقباط بأنهم أقلية، وبالتالي تكريس عزوفهم وسلبيتهم في المشاركة السياسية، كما كان تولي الأقباط وزارات هامشية انعكاسًا لتهميشهم سياسيًّا".