عام واحد مضى على تولي محمد أنور السادات الحكم في مصر، بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، حتى توفي بابا الكنيسة الأنبا كيرلس الساسدس، ليتم انتخاب البابا الأكثر جدلًا في حياة الكنيسة لكرسي الباباوية، لتشهد رحلة الرؤساء والبابا عصرًا زاخرًا بطلاه البابا شنودة والرئيس محمد أنور السادات.
ومع رحيل الأنبا كيرلس السادس، كانت الكنيسة تحظى بمكانة كبيرة على المستوى السياسي بفضل علاقة البابا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولكن مع تولي السادات ظهر ما أسماه المؤرخون "اضهادًا للأقباط" لم يستثنى منه حتى البابا، حيث ظهرت أول أحداث للفتنة الطائفية في مصر، خاصة مع اتجاه السادات للإفراج عن المعتقلين من الجماعات الإسلامية والإخوان في سبيل تخلصه من مناصري عبد الناصر، لتعيش الكنيسة والرئيس حالة من الصراع الذي شهد تصاعدات حادة.
وفرد الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، تحليلًا للصراع بين الرئيس السادات والبابا شنودة، لأن الأنبا شنودة – قبل توليه كرسي الباباوية- كان يرى أن الكنيسة مؤسسة شاملة تقدم حلولاً لكل المشاكل وأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا، إلا أن الخلاف ظهر بعد توليه الباباوية، حيث ذكر الراحل "هيكل" في كتابه "خريف الغضب" ن أى مراقب للأحداث كان لا بد أن يتوقع صداماً بين السادات وشنودة، لأن كليهما من وجهة نظر «هيكل» كان فيه شىء من الآخر، على الأقل من ناحية الإحساس بالذات. ولم يتأخر الصدام كثيراً، فقد بدأ أول احتكاك بين الاثنين بعد ٦ أشهر من انتخاب البابا شنودة.«أول فتنة طائفية في مصر»يذكر المؤرخون أنه عند إعداد الدستور الدائم سنة 1971 اقترحت الكنيسة القبطية ألا ينص في الدستور على دين بالذات كدين للدولة أو أن يضاف إلى المادة الثانية من الدستور (الإسلام دين الدولة) التعبير الآتي (وتعترف الدولة بالكنيسة القبطية بصفتها الكنيسة الوطنية)، أو تعديل المادة 34 من الدستور المؤقت (1964) بما يكفل حرية اقامة بيوت العبادة دون قيود – وهو الأمر الذي مازالت تحاول الكنيسة في استصدار قانون بناء دور العبادة حتى الآن- ولكن في عام 1979م تم تعديل الدستور وذلك بتغيير عبارة (الشريعة الاسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع) ليكون (الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).وبعد عدد من أحاداث الاعتداء على الأديرة القبطية، فبعدما قام الرئيس السادات بترميم كنيسة دير البراموس بطوخ دلكا، ثنم تم تخصيص وقف الدير لبناء ميت أبو الكوم الجديدة، وذلك بدون أي تعويض للدير عن أراضيه، تلاها الاعتداء على كنيسة بضواحي الأقصر علم 1970، تبعها أحداث الاعتداء على جمعية النهضة الأرثوذوكسية بسنهور 8 / 9 / 1972 م، والتي ظهر خلالها لأول مرة علانية عناصر من الجماعات الإسلامية، بعد أن أعلن الأقباط أن البيت هو مقر كنيسة مار مينا بدمنهور، وأضرمت النار في الكنيسة إلا أن الأقباط يروون أن المحافظ كان على علم بما يحدث.كل تلك الحوادث لم تحدث صدى على المدى بعيد، إلى أن جاءت أحداث الخانكة، والتي أرخ لها بأنها أول أحداث فتنة طائفية تشهدها البلاد عام 1972، بعد أن أحرق عددج من المسلمين جمعية الكتاب المقدس في الوقت الذي كان المسيحيون يؤدون فيها الشعائرالدينية، في المدينة الصغيرة التي تقع على أطراف مدينة القاهرة، اتخذ المسيحيون منزلا للاجتماع كـ "كنيسة" فأنشأوا الدكاكين حولها وفي قلبها ملعبًا ثم جائها مذبحًا في ذات يوم ودشنها أحد الأساقفة وتمت الصلاة، فقام المسلمين بصدام وإعتداء على الأقباط وساروا فى مظاهرات تهدد رجال الأمن وحرقوا المنزل ونهبوا محتوياته، وما تبع ذلك أن قامت الشرطة بإزالة المنشآت التابعة لها باعتبارها بناء كنيسة بدون ترخيص.«البابا شنودة يظهر في الصورة»يقول الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، إن أحداث الخانكة كانت سبب أول احتكاك بين السادات والبابا شنودة، وكتب هيكل في «خريف الغضب» أن البابا شنودة أصدر أمره إلى مجموعة من الأساقفة بأن يتقدموا موكباً ضخماً من القساوسة، ويسيروا صفاً بعد صف فى زحف شبه عسكري إلى ما بقي من مبنى الكنيسة ثم يقيموا قداس صلاة حتى بين أطلاله، وكانت الأوامر لهم أن يواصلوا التقدم مهما يكن الأمر، حتى إذا أطلق البوليس عليهم نيران بنادقه، وفعل الأساقفة كما أمرهم البابا، مما أثار غضب السادات، واعتبر ذلك تحديًا له شخصيًا، واتصل به قائلًا:«شنودة يريد أن يلوى ذراعى، ولن أسمح له أن يفعل ذلك»، وأنه سيطرح تلك الأزمة في مجلس النواب.«هيكل يطرح الحل على السادات»يروي الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، ما حدث فى موضوع حادثة الخانكة فيقول : ” ذهبت لمقابلة الرئيس السادات فى بيته فى الجيزة أعرض عليه وجهه نظر مفصلة فى إمكانية الحل . كان رأيى أن قضية الخط الهمايونى لازالت أكبر سبب للمشاكل , وأنه لابد من حل ” يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” ثم رويت للرئيس السادات كيف جرى حل هذه المشكله عملياً أيام الرئيس عبد الناصر ومن خلال اتفاقه مع البابا كيرلس على وضع عدد معين من تصريحات بناء الكنائس الجديدة تحت تصرف البابا، وكان رأيى أن ذلك لايحل المشكلة عملياً فحسب , وإنما يرضى مشاعر البابا حين يجعله يحس أنه يملك صلاحيات عملية وفعالة كرئيس لكنيسة عالمية كبرى.. وسألنى الرئيس السادات كم عدد الكنائس الجديدة التى صرح بها عبد الناصرسنوياً للبابا كيرلس , وحين ذكرت العدد .. ( خمسة وعشرين كنيسة سنوياً ) هز الرئيس السادات رأسة معترضاً قائلاً: “إن ذلك كثير جداً”.ورغم امتعاضه استمع السادات لنصيحة هيكل، اجتمع الرئيس بالبابا شنودة ومعه الأساقفة وصرح لهم بإنشاء خمسين كنيسة بدلا من بناء خمسة وعشرين كنيسة سنوياً التي صرح بها عبد الناصر، وتحدث إليهم فى حل مشكلة الأوقاف المسيحية القبطية، فى رسالة معناها إن الوطن أحوج ما يكون الآن إلى وحدته الوطنية وإن التسابق فى بناء المساجد والكنائس تسابق حافل بدواعى الإثارة، وإن احتياجات التطور الاجتماعي لا تتطلب فقط بناء مساجد وكنائس جديدة،ولكنها تطلب أيضا ًبناء مدارس ومستشفيات جديدة".
وأدى السادات صلاة الظهر في غرفة الاجتماعات وحوله البابا والأساقفة، إلا أن هذه الوعود تبخرت عند بزوغ النهار فقد حدثت شكاوى من رجال الدين المسيحي من النبوى إسماعيل وزير داخلية حكومة السادات الذي كان يتباطأ فى تنفيذ تعلميات رئيسة ببناء 50 كنيسة، ووضع العراقيل الروتينية، وقال البابا شنودة : ” إنه لم يتم تنفيذ هذا القرار .ولما وجد البابا شنودة أن بناء الكنائس داخلياً قد توقف راح يركز على كنائس الخارج ويتوسع فيها ويرسم لها أساقفة جدد خاصة فى أمريكا الشمالية وكندا وأستراليا «أقباط المهجر» ولم يترك القارة الأفريقية وبدأ يمد نشاط الكنيسة القبطية إلى كل أرجائها وراح يحقق تواجداً دولياً ملحوظاً لكرسى مرقص الرسول – وكان من الخطوات ذات الدلالة فى هذا الإتجاه أن البابا شنودة وقع فى سنة 1973 إعلاناً مشتركاً مع البابا ” بول ” الجالس على عرش الفاتيكان فى روما وقتها.«شنودة ند للسادات»في 17 يناير 1977 ترأس البابا شنودة، مؤتمرًا، وجاء البيان الأول الصادر عنه أن الأقباط يمثلون "أقدم وأعرق سلالة" في الشعب المصري، ثم تعرض المؤتمر لحرية العقيدة الدينية، وممارسة الشعائر الدينية، وحماية الأسرة والزواج المسيحي والمساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل المسيحيين في الهيئات النيابية والتحذير من الاتجاهات المتطرفة ، كما أصدر بيان طالب فيه بإلغاء مشروع الردة، واستبعاد التفكير في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، كانت التوصيات التنفيذية هي أخطر ما جاء في البيان، حيث طالبت الأقباط بالصوم الانقطاعي لثلاثة أيام (من 31 يناير إلى 2 فبراير 1977)، وذلك للفت النظر إلى مطالبهم.
وهو ما أرخ له "هيكل" في خريف الغضب، قائلًا: " وفى الوقت نفسه، وفي ظل المناخ الحافل بأسباب الاستفزاز في تلك الأيام ستجيب السلطات إلى مقترحاته في مصر، رد شيخ الأزهر وقتها عبد الحليم محمود على المؤتمر القبطي بمؤتمر إسلامي مضاد دعا إليه ممثلون عن كل الهيئات الإسلامية، رد فيها على ما أثاره المؤتمر القبطي، وهكذا بدا في الجو نوع من التوتر بين المسلمين والأقباط، وظهرت نبرة التوتر عالية فى ٢٦ مارس عام ١٩٨٠، عندما ألقى البابا شنودة خطاباً غاضباً عارض فيه أن تكون الشريعة الإسلامية أساساً لقوانين تطبق على غير المسلمين، وأعلن خلال الخطاب أن صلوات عيد القيامة لتلك السنة لن تقام كنوع من الاحتجاج على إهمال ما تقدم به الأقباط من طلبات وعوضاً عن حضور قداسات الجمعة الحزينة، فقد قرر البابا أنه سوف يذهب ومعه الأساقفة إلى أحد الأديرة في الصحراء يصلون من أجل الخلاص مما يعانونه من ضغط، وأصدر أمره إلى كل رجال الكنيسة بألا يتقبلوا التهانى بعيد القيامة من أى مسؤول رسمى تبعث به الدولة لتهنئة الأقباط بهذا العيد، كما جرى التقليد من قبل"، وهو ما اعتبره السادات تحديًا صريحًا من البابا شنودة.
وتذكر المواقع القبطية، أنه في مطلع الثمانينيات قام المحامي حنا ناروز عضو مجلس الشعب ووكيل المجلس الملي، وأحد المقربين من الرئيس السادات يرفع مذكرة لرئيس مجلس الوزراء بشأن الأحداث التي يشكو منها المسيحيون، وأكدت المذكرة أن الأقباط ليسوا من مثيري الشغب، وأن الإجراءات التي اتخذت، يقصد ما قامت به الكنيسة من صوم وامتناع عن تقبل التهنئة بالعيد، لم يكن المقصود منها «أي إحراج أو ضغط أو إثارة أو ضغط، بل على العكس كان القصد منها هو سرعة تحرك المسئولين لوأد الفتنة»، ثم عددت المذكرة أمثلة لما تعتبره ماسا بشأن الأقباط مثل رأى للشيخ الشعراوي الذي أعلنه في جريدة الأخبار، بأن الإنجيل محرف، وحرص التليفزيون على عدم التحوط في مثل هذه الأمور وترديدها، وتصريحات ومواقف لمحافظ أسيوط محمد إسماعيل عثمان تعتبرها المذكرة مسيئة للمسيحيين، ثم نوه بأحكام قضائية تتداول أيضا مصطلح الكفر ضد الأقباط، فضلا عن ترك الجماعات الإسلامية لمهاجمة المسيحيين وتوزيع المنشورات.«البابا يرفض التطبيع»تصاعدت حدة الصدام بين السادات وشنودة، بعدما رفض البابا اتفاقية السلام مع إسرائيل، ورفض الذهاب مع الرئيس "السادات" في زيارته إلى إسرائيل عام 1977، كما رفض إرسال أي وفود مسيحية للحج إلى بيت المقدس إلا إذا سمح لمسلمي الأمة العربية بدخول الأقصى، حيث قال: " أرجوكم أبلغوا الرئيس أنني لا أرى الوقت مناسباً لتنفيذ اقتراحه".
وجاء رد فعل السادات على ذلك، بحسب ما ذكره "هيكل" بأن السادات قرر أن يدخل فى مواجهة مع البابا شنودة وقام بمهاجمته فى احتفالات ذكرى ١٥ مايو، عندما ألقى خطاباً فى مجلس الشعب اتهم فيه البابا بأنه يريد أن «يكون زعيماً سياسياً للأقباط فى مصر، ولا يريد أن يكتفى برئاسته الدينية لهم»، ثم أضاف أن التقارير لديه تشير إلى أن البابا يعمل من أجل إنشاء دولة للأقباط فى صعيد مصر تكون عاصمتها أسيوط، ثم صاح قائلاً: «إن البابا يجب أن يعلم أننى رئيس مسلم لدولة مسلمة»، ويرجع «هيكل» سبب ضيق السادات من البابا شنودة إلى رفض الأخير السماح للأقباط بالحج للقدس بعد توقيع الأول وثيقة الصلح مع إسرائيل.«تمكن الإسلاميين وتبعات قرار البابا شنودة»بعد تصاعد نفوذ الإسلاميين، الذين استعان بهم السادات للتخلص من اليساريين والشيوعيين، زادت معاناة الأقباط من التعرض لحواث عنف وطائفية، حتى بدأ أقباط المهجر في التحرك ضد ما أسموه اضطهاد للأقباط، ونظموا مظاهرات ضد السادات أثناء زيارته لأمريكا عام 1975، ليلتقى بالرئيس الأمريكى رونالد ريجان للمرة الأولى، بعد توليه منصب الرئاسة، وتم تصميم إعلانات تحكي عن آلام الأقباط في مصر في صحيفتي النيويورك تايمز والواشنطن بوست، وهو ما غضب بسببه السادات وطلب من البابا شنودة وقف تظاهرات الأقباط في المهجر، وبسبب تأخر إيقافهم اعتبر السادات أن البابا «شنودة» يتحداه، وبالفعل نظمت جمعيات قبطية في أمريكا مظاهرتين ضد السادات فى واشنطن إحداهما أمام البيت الأبيض أثناء اجتماعه مع ريجان، والثانية أمام متحف المتروبوليتان الذي كان سيحضر فيه احتفالاً بإقامة قسم جديد للآثار المصرية، وأصدر السادات قراراته بالتحفظ على أكثر من ١٠٠٠ شخصية عامة يوم ٣ سبتمبر من العام نفسه.
ويقول «هيكل» إن البابا شنودة كان موجوداً وقتها فى دير وادى النطرون، وعرف أن مئات الأساقفة والرهبان والقسس قد جرى اعتقالهم، وفى صباح يوم ٥ سبتمبر عرف أن الدير الذى يقيم فيه جرى تطويقه بواسطة قوات من البوليس والأمن المركزي.«السادات يقرر عزل البابا شنودة»وبعد محاصرة الدير، أعلن الرئيس السادات ، في خطابه الشهير أمام البرلمان، سحب اعتراف الدولة بانتخاب البابا، وقام بتعيين لجنة بابوية مؤقتة من خمسة أعضاء أبرزهم الأنبا صموئيل أسقف الخدمات، لكي يتولوا مهام ومسؤوليات الكرسى البابوى، وفور انتهاء خطاب السادات وصلت إلى مقر الدير قوة شرطة جديدة تطلب الأنبا أبشواى، سكرتير البابا، وهو ما تم، وأغلق الدير بعد خروجه منه.
ويقول «هيكل» إنه بعد أكثر قليلاً من شهر واحد قتل الأنبا صموئيل جنباً إلى جنب مع الرئيس السادات في حادث المنصة، وبدأ كثيرون من عامة الأقباط يعتقدون أن كرامات البابا بدأت تتجلى وتحل على الذين ظلموه أو ساعدوا ظالميه. ثم أضيف إلى أسطورة الكرامات عنصر آخر، حين أصيب بالسكتة القلبية صحفى قبطى تطوع لكتابة مقال عنيف ضد الأنبا شنودة فى جريدة الأهرام. وخرج البابا مرة واحدة في فترة الحصار من الدير.
وبوفاة السادات انتهت فترة حصار البابا شنودة، الذي تم الإفراج عنه ليعاصر مرحلة جديدة مع الرئيس الجديد محمد حسني مبارك.