تعدُّ السينما أحدَ الأدواتِ التعبيرية عن الطاقات الإنسانية إظهارًا لأعماقِ الإنسان وسلوكِه تجاه مجتمعه وفلسفته في الحياة بمعنى الحب والخير والجمال، والنقدُ دورُه تجاه هذا هو مواجهة مظاهر القبح ورسم مسار للجمال حتى لا يضلُّ المشاهدُ طريقَه ونظلُّ نعاني من اضمحلال ومرض السينما ورجوعِها بظهور الأفلام التجارية – وإن كنتُ أرى أنّه من المغالطات التي توجد في المجتمع أن يطلقَ الناس مصطلحًا ويكون هناك شبه اتفاق عليه، بمعنى أي فعل أو قول معين يُفعل بالتبعية يُطلق عليه هذا المصطلح بدون البحث عن أبعاد هذا الفعل أو القول - وكما يقول إلكسندر إليوت "إذا فقدَ الإنسانُ صراطَ الجمال مرِض"؛ وبما أن السينما أحد الأشكال الجمالية في حياتنا فبعدُها عن رسالتها ورؤيتها الجمالية الأساسية بالتبعية تمرض؛ لذا نرى أن محاولة تسليط الضوء على الجمال في بعض الأعمال السينمائية وعرضها بشكل نقدي جمالي هي محاولة في حد ذاتها لمحاصرة هذا المرض من الانتشار واستشعارًا بأن هذا المرض ضَغى على السينما المصرية مؤخرًا – إلا القليل – وعودة القوى الناعمة - متمثلة في السينما- لدورها الفعال في تغيير الرأي العام داخل المجتمع، وكما يقول البعض إن الجمال لا ينقذ العالم ولكن الجمال في العالم يجب إنقاذه.
ولا نقصد أن تكون السينما مثالية بعيدة عن الواقع، فالجمال قرين العدل والحب والخير والحكمة ولكن ما نقصده أن تقدم السينما الجوهري في الأشياء من أجل تغييره للصالح العام؛ ولذلك عندما سُئل إحسان عبد القدوس عن سبب انتشار الدعارة في أفلامه والعري قال: "هذا هو الواقع"، فمُجرد تقديمه للواقع هي محاولة للإصلاح، عكس أن يقدمَ المؤلفُ الفيلمَ بصورةٍ مثاليةٍ مثلما قال محمود أبو زيد مؤلف فيلم الكيف والعار عندما سُئل عن العلاقة بين الفن والواقع: "الواقع أكثر انحطاطًا من الدراما"، وبالتالي فإظهار هذا الواقع محاولة للإصلاح؛ ولكن يجب أن يكون بشكلٍ جمالي وسأعرض مفهوم بعض الفلاسفة عنه للإيضاح.
رأى الفيلسوف الألماني "كانط" وفلسفته تعرف بالفلسفة النقدية أن "الجمال" يجب أن يكون منزهًا عن أي غرض بمعنى عندما تصدر حكمًا على الأمور يجب أن تشير إلى ذاتها، وتعي أن حكمَك الصادر تجاه هذا الأمر ليس فيه هوى أو خداع للنفس فتجد نفسك مدفوعًا بالضرورة للجمال بوصفه وسيلة وغاية في حد ذاته؛ وبالتالي لو قلتُ مثلًا إن مخرجًا يقدم فيلمًا للبحث عن المال والشهرة أو أن فنانًا يعمل من أجل نفس الأسباب السابقة؛ فالتحليل الأخير لهذا أنه ليس عملا جماليًّا؛ لأن المال والشهرة أصبحا الغاية لدى العاملين في مجال السينما وعلى رأسهم المخرج باستخدام الفن وسيلة بعد تقديم نظرة نفعية من البداية، ولم يكن الجمال "غائية".
وهذه الرؤية تضعنا في إشكالية يلخصها سؤال "وكيف يأتي الجمال؟" نجد الإجابة عند فيلسوف آخر هو أفلوطين وهو أحد المتأثرين بالفيلسوف الكبير أفلاطون الذي يرى أن الجمال هو ينبوع الفن، وأنه كامن في النفس الإنسانية، والجمال أساسه العقل؛ لأنه يبتعد عن الموجودات الحسية وجمال النفس مستمد من العقل، وبالتالي ما يجب فهمه أن تسود سينما الوعي التي تدعو لتحررِ العقول من الخرافات؛ كان توفيق الحكيم يقول: "إني أقيم مسرحي داخل العقل"؛ ليقف الجمال والعقل والحكمة في جانب واللاوعي واللاعقلانية والماديات ومثالها السينما التجارية في جانب آخر.
في واقعنا الحالي من يطبق هذه الرؤية - وإن كانت مثالية جدًا ربما غير موجودة ولكن هناك من يسعى لهذا مثل داود عبد السيد - ينطبق عليه أن يكون مخرجًا جماليًا يقدم سينما أساسها الخير والتأمل في جوهر الأشياء ويستكشف ما لاتراه عين الشخص الباحث عن المظاهر بكل ما تعكسه من أمور سلبية شر وقبح وكره، وهذه المظاهر لها نهاية بعكس عندما يكون الجمال للجمال فهو غير نهائي، ولذا هناك أفلام خالدة في السينما المصرية لا يمكن نسيانها لأنها قدمت هذا الرؤية الجمالية على يد مخرجين أمثال يوسف شاهين وحسين كمال وصلاح أبو سيف ومحمد خان.
وهنا أريد أن أشير إلى أمثال هذه الأفلام ورؤيتها الجمالية في الفن - بشكل مقتضب - من خلال فيلم "فتاة المصنع" للمخرج محمد خان الذي بدأ عرضه في دور السينما عام 2014م ويمثل الصراع فيه بين هيام "ياسمين رئيس" بطلة الفيلم رمز الحب والخير والجمال والتي تريد الاستمرار والأمل والانتصار للطبقات المهمشة و"الآخر" المتمثل في الباشمهندس منير "هاني عادل" والجدة والأم وإدارة المصنع وزميلاتها الذين يمثلون رمز السلطة - في الفيلم - بمفهومها الواسع "التخلف والظلم والقهر"؛ لذلك ربط محمد خان بعبقرية بين نهاية الفيلم والنهاية الواقعية في الحياة بأن الجمال هو من ينتصر ويبقى، فنجده يختم الفيلم و"هيام" ترقص أمام "منير" الذي رفض أن يتزوجها لأنها ليست من مستواه العلمي والاجتماعي. وأمام زميلاتها اللائي اتهمنها بالزنا، وفعل الرقص هنا كانت إشارة من قبل المخرج ليست مجرد جسم يتلوى أو غاية - كما في الأفلام التي تبتغي أي شيء آخر غير الجمال - بل حركة من البطلة في رحابة الحرية فبعد قص شعرها وضربها وإذلالها من قبل سلطةٍ المفروض أنها تقفُ في صفّها؛ لأنها من داخل طبقتها (جدتها وأمها وأخوالها على الترتيب)، كانت رؤية خان رسالةً أنها ستنتصر وستكمل الحياة وهي الباقية رغم أنفِ كل أعداء الحياة وإن المجد - في النهاية - لأصحاب الرؤى النبيلة؛ ليخلد محمد خان بهذا الفيلم تاريخًا جديدًا بجانب أفلامِه "أحلام هند وكاميليا"، و"زوجة رجل مهم"، و"الحريف"، و"خرج ولم يعد"، و"عودة مواطن"؛ رافضًا للمادية والتنميط ومقدمًا سينما تمثل خصوصيتنا بشكل جمالي عقلاني واعٍ.
للتواصل مع الكاتب:[email protected]