قدمت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، طلبًا إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة بفتح تحقيق شامل في جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية، ما يمثل علامة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفقا للمحللين الذين قالوا إن هذا القرار بحاجة إلى مزيد من الحذر، خاصة وأن الاسرائيليين والأمريكان سيحاولون تصوير تلك الخطوات على أنها لأغراض سياسية ومعادية للسامية، معتبرين أن هذا القرار سيواجه تحديات كبيرة في ظل المعارضة العنيفة التي يواجهها من جانب إسرائيل وأمريكا اللتين اعتبرتا أن السلطة الفلسطينية غير مخولة لتفويض المحكمة الجنائية وأن إسرائيل ليست عضوا فيها ما يجعل الولاية الجنائية للمحكمة الدولية على تل أبيب غير قانونية، فما مدى إمكانية تنفيذ هذا التحقيق وما قد يستتبعه من صدور أحكام جنائية بحق مسؤولين كبار في إسرائيل متورطين في جرائم حرب ضد الفلسطينيين؟.
وأعلنت "بنسودة" في مقطع فيديو أنه "بناءً على تحليل موضوعي لجميع البيانات المتاحة فيما يتعلق بالوضع في فلسطين... فنحن على استعداد لفتح تحقيق".
وقالت المدعية العامة: "أنا مقتنعة بأن جرائم حرب قد ارتكبت في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك في قطاع غزة"، مضيفة "هناك أساس معقول لمواصلة التحقيق في الوضع في فلسطين".
رد فعل الفلسطينيين
من جانبهم، رحب الفلسطينيون إلى حد كبير بإعلان "بنسودة" وسط انتقادات شديدة وغضب من جانب كلا من الإدارة الأمريكية وإسرائيل التي استندت إلى زعم أنها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما دفعهم إلى القول إن الفلسطينيين لا يمكنهم مقاضاة إسرائيل بسبب أي جرائم حرب.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن قرار بنسودة "عار كبير ويوم أسود في تاريخ الحقيقة والعدالة"، وفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
من جهته، قال رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، محمد أشتية، إن قرار المحكمة الجنائية الدولية "يعد تحولا كبيرا وملحوظًا في التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين"، مضيفا أن حكومته ستبذل كل جهد قانوني لمحاسبة إسرائيل.
ماذا قالت حماس؟
بدورها، أعلنت حركة حماس، في بيان صحفي، أنها مستعدة لتسهيل مهام أي لجنة تابعة للمحكمة الجنائية الدولية وأعربت عن استعدادها للتعاون من خلال تقديم جميع الوثائق والأدلة اللازمة لتوجيه الاتهام لإسرائيل.
وقال عصام يونس، خبير القانون الدولي ومدير مجموعة الميزان للحقوق في غزة، إن قرار بنسودة "إنجاز عظيم، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى الكثير من العمل والكثير من الحذر".
وأضاف "يونس" لوكالة أنباء "شينخوا" الصينية: "يجب على الفلسطينيين بدء عمل قانوني احترافي استعدادا لمداولات الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية بشأن الاختصاص الجغرافي".
وفي أواخر ديسمبر 2014، وقّع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وثائق الانضمام إلى 20 معاهدة دولية، بما في ذلك معاهدة روما، والتي مهدت الطريق للفلسطينيين للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وأن يصبحوا أعضاء بها في أبريل 2015.
وواجه هذا الإعلان معارضة كبيرة من جانب أمريكا حليفة الإسرائيليين. وتعقيبا على ذلك، قال حازم قاسم، الناطق بلسان "حماس" في غزة، في بيان صحفي، إن المعارضة الأمريكية لقرار المحكمة الجنائية الدولية "هي إصرار على توفير غطاء للاحتلال الإسرائيلي وتشجيعه على ارتكاب المزيد من الجرائم".
كانت السلطة الفلسطينية قدمت في السابق ملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن قضايا الاستيطان، والحرب الإسرائيلية الواسعة النطاق على قطاع غزة في عام 2014، وملف المعتقلين الفلسطينيين. كما قدمت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية عدة تقارير مماثلة.
شماعة معاداة السامية
وقال باسم الخالدي، المستشار السياسي للأمم المتحدة في فلسطين، لـ"شينخوا"، إن "إسرائيل، بدعم من واشنطن، ستحاول تصوير خطوات المحكمة الجنائية الدولية على أنها قضية سياسية ومعادية للسامية"، مضيفا و"لهذا السبب يجب على الجانبين الفلسطيني والعربي مواصلة التركيز على حقيقة أن قرار المحكمة الجنائية الدولية هو قرار قانوني يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، وأن فلسطين هي قضية حقوق إنسان تتفق مع القانون الدولي".
إلى ذلك، قال مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة، إن قرار المحكمة الجنائية الدولية "مهم ويفتتح مرحلة حرجة في تاريخ الصراع مع إسرائيل".
وأشار "أبو سعدة"، وفقا للوكالة الصينية، إلى أن التحقيق في المحكمة الجنائية الدولية سيواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالشك الإسرائيلي في وضع السلطة الفلسطينية كدولة ذات سيادة، وأيضًا إثبات ولاية المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي الفلسطينية.
وأضاف "أبو سعدة" أنه يعتقد أنه من المفترض أن تبدأ المحكمة الجنائية الدولية في أقرب وقت ممكن تحقيقات مباشرة في الجرائم الإسرائيلية لانتهاكها اتفاقية جنيف الرابعة، التي تعتبر الأراضي الفلسطينية محتلة.
وتابع "أبو سعدة": "هناك العديد من الملفات التي يمكن عرضها على العدالة الدولية لإدانة إسرائيل، مثل توسيع المستوطنات وهدم المنازل وطرد الفلسطينيين والتعذيب في السجون وكذلك الجرائم ضد المدنيين".
موقف الأمريكان
بدوره، قال وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إن المحكمة الجنائية الدولية استهدفت إسرائيل بشكل غير عادل. والشهر الماضي، أعلن "بومبيو" أن الموقف الأمريكي من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية هو أنها لا تتعارض مع القانون الدولي.
وأضاف أن الولايات المتحدة "لا تعتقد أن الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، وبالتالي فهم غير مؤهلين للحصول على العضوية الكاملة، أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية".
وزعم وزير الخارجية الأمريكي أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص على بلاده ولا على إسرائيل، على وجه التحديد، لأنها ليست طرفًا في نظام روما الأساسي.
ولفت الوزير الأمريكي إلى أنه "في هذه الحالة، هذا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها النظر في قضية تتعلق بإسرائيل إلا من خلال "إحالة هذه القضية من مجلس الأمن الدولي أو موافقة هذه الدولة".
وقال بومبيو: "نتوقع أن يتم احترام القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة وإسرائيل بعدم الانضمام وعدم وضع موظفينا تحت سلطة المحكمة"، مضيفا أن الولايات المتحدة ملتزمة بتحقيق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن السبيل الوحيد للمضي قدماً هو من خلال المفاوضات المباشرة.
وقبل ساعات قليلة فقط من قرار "بنسودة"، نشر المدعي العام الإسرائيلي، أفيخاي مندلبليت، قرارًا برفض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؛ وكتب مندلبليت: "إن الموقف القانوني المبدئي لدولة إسرائيل، التي ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية، هو أن المحكمة تفتقر إلى الاختصاص فيما يتعلق بإسرائيل، وأن أي إجراءات فلسطينية فيما يتعلق بالمحكمة غير قانونية".
وقال "الدول ذات السيادة هي وحدها القادرة على تفويض المحكمة الجنائية؛ والسلطة الفلسطينية بوضوح لا تفي بمعايير الدولة بموجب القانون الدولي والنظام الأساسي لتأسيس المحكمة".
وتابع: إن "الادعاء بأن الفلسطينيين زعموا الانضمام إلى نظام روما الأساسي لا يفي، ولا يمكن أن يحل محل الاختبار الموضوعي الذي يتطلب تفويض الاختصاص الجنائي للمحكمة من قبل دولة ذات سيادة وذات أرض محددة".
وقال مندلبليت: "لدى إسرائيل مطالبات قانونية صالحة بنفس المنطقة التي يسعى الفلسطينيون إلى عرضها على اختصاص المحكمة".
بالإضافة إلى ذلك، أوضح أنه إذا كانت المحكمة ستتخذ قرارًا قضائيًا، فسيتم النظر في مسألة مفاوضات مستقبلية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وقال إن إسرائيل والفلسطينيين وافقوا على حل وضع الأراضي المعنية من خلال إطار المفاوضات.
وكتب مندلبليت: "يسعى الفلسطينيون إلى خرق الإطار المتفق عليه بين الطرفين ودفع المحكمة لتحديد القضايا السياسية التي ينبغي حلها عن طريق المفاوضات وليس بإجراءات جنائية".
وأوضح: "لم يتم إنشاء المحكمة لمثل هذه الأغراض، كما أنها لا تتمتع بسلطة أو صلاحية لتحديد مثل هذه الأمور، خاصة في حالة عدم موافقة الأطراف".
بالإضافة إلى ذلك، أوضح "مندلبليت" أن "الاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية القائمة توضح أنه ليس للفلسطينيين أي اختصاص جنائي سواء في القانون - أو في الواقع على المنطقة C والقدس والمواطنين الإسرائيليين- وبالتالي لا يمكن تفويض هذه الولاية القضائية للمحكمة بشكل صحيح".
وأشار إلى أن أي استنتاج مفاده أن المحكمة الجنائية الدولية لها اختصاص لن "يصمد أمام أي تدقيق قانوني ووقائعي جاد، وسيواجه حتماً أحكام نظام روما الأساسي نفسه، وكذلك قواعد القانون الدولي العام".
وفي تصريح صحفي لوسائل الإعلام، أوضح المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، تل بيكر، أنه يتعين على المحكمة الجنائية الدولية والفلسطينيين أن يقرروا ما إذا كانت الأرض المعنية محتلة أم أنها دولة فلسطينية ذات سيادة، ولكن لأغراض القانون، لا يمكن تحديد هذين الأمرين على حد سواء.
ألان بيكر، المستشار القانوني السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية ومدير برنامج القانون الدولي في مركز القدس للشؤون العامة، قال لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية: "إذا قبلت المحكمة الطلبات الفلسطينية وفتحت تحقيقًا رسميًا، فسوف تضر بمصداقيتها القانونية و تصبح مسيسة مثل هيئات الأمم المتحدة الأخرى، مضيفا أن "هذا ما تحاول القيادة الفلسطينية فعله على حساب الضرر الكبير، وربما تدمير المحكمة الجنائية الدولية"، على حد زعمه.