لطالما عرف الجيش التركي بأنه معقل "الكمالية"، الإيديولوجية العلمانية والقومية لمؤسس تركيا، مصطفى كمال أتاتورك. لذا عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، خاف كثيرون من أن ينفذ الجيش انقلابًا باسم الكمالية.
ولكن الباحث البارز في معهد آسيا الوسطى والقوقاز هاليل كارافيلي كتب في صحيفة نيويورك تايمز أنه عندما حصل الانقلاب في تركيا أخيرًا في 15 يوليو (تموز)، لم يتهم الكماليون به، وإنما الغولنيون.
فصيل غولاني
وبعد الانقلاب، اعتقلت السلطات التركية عددًا كبيرًا من العسكريين، وأعفت مئات آخرين، وصرفت مئات الموظفين من مؤسسات الدولة.
ويلفت الباحث إلى أن ليس جميع هؤلاء هم بالضرورة على صلة بمنظمة غولن، مع أن فكرة أن يكون فصيل غولاني داخل الجيش وراء الانقلاب ليست مستبعدة، وخصوصًا أن هذه المحاولة الانقلابية حصلت في سياق نفوذ متمدد للغولنيين في مؤسسات الدولة التركية وبعد سنة من الصراع على السلطة بين أردوغان ومناصري الداعية الإسلامية الذين كانوا حلفاء سياسيين للرئيس التركي.
الغالبية الكمالية
ويلفت كارافيلي إلى أن أحد أسباب فشل الانقلاب هو أن الغالبية الكمالية في الجيش، بما فيها قيادته العليا، لم تشارك في المحاولة، وإنما تحرك هؤلاء لقمع ما وصفه رئيس الأركان بأنه محاولة "مجنونة" قام بها غولنيون.
اعتدال وسعي إلى السلطة
ورسميًا، تلتزم حركة غولن قيم الاعتدال الديني والحوار بين الأديان وتشجع التعليم والعلوم من خلال شبكة واسعة من المدارس، عالميًا وحتى الان في تركيا. ولكن الغولنيون ينتمون أيضًا إلى شبكة سرية سعت بلا كلل للإمساك بالسلطة، في تناقض صارخ مع الاعتدال الذي تبشر به.
ويذكر أن الغولنيين وحزب العدالة والتنمية كانوا حلفاء. وقد وفرت الحركة للحزب الحاكم الموظفين المتعلمين الذين كان يفتقر إليهم، واضطلع أتباعها في الشرطة والقضاء بدور بارز في تدبير المحاكمات التي أوصلت مجموعات من العسكريين إلى السجن في السنوات الأولى من صعود حزب العدالة والتنمية.
الصراع الداخلي
ويلفت كارافيلي إلى أنه مع إلحاقهما هزيمة بعدوهما المشتركة، أي الدولة الكمالية، انقلب الغولنيون وحزب العدالة والتنمية على بعضهما.
وظهرت المؤشرات الأولى إلى هذا الصراع الداخلي عام 2012 مع محاولة اعتقال رئيس الاستخبارات الوطنية، القريب جدًا من الرئيس التركي. وفي حينه، اتخذ أردوغان الذي كان رئيسًا للوزراء قرارًا مكشوفًا في إطار الصراع على السلطة، بإعلانه نيته إقفال عشرات من المدارس الإعدادية الخاصة في تركيا، أكثرها غولنية، ما سرع جولة جديدة من الرد من الغولنيين عام 2013 عندما بدأ القضاء تحقيقًا في فساد حكومي.
ورد أردوغان بإزاحة أنصار غولن من الشرطة والقضاء. حتى أنه تقرب من الجيش كحليف جديد، مطلقًا عام 2014 جميع العسكريين الكماليين المعتقلين بتهمة التخطيط لانقلاب.
وكان رئيس الأركان السابق الجنرال إيلكر باشبوغ ادعى بأنه وزملاء له هم ضحايا مؤامرة نفذتها حركة غولن، وهو ما أيده أردوغان الذي ادعى بأنه ضُلل من الغولنيين الذين خدعوه بأدلة ضد العسكريين تبين لاحقًا أنها مفبركة.
ويلفت كارافيلي إلى أن تلك المعلومات المغلوطة ساعدت الموالين لغولن على الأرجح في الارتقاء في صفوف الجيش بعد سجن الحرس القديم من الكماليين.
تطهير الإسلاميين
وبعدما كان الجيش التركي يقظًا من تسلل محتمل من أعضاء الإخوان المسلمين إلى صفوفه، عرقل حزب العدالة والتنمية بدءا من 2003 دوريًا أية طلبات من قيادة الجيش لتسريح جنود يشتبه بصلاتهم بإسلاميين.
وقد تغير هذا الوضع مع انفراط التحالف بين حزب العدالة والتنمية والغولنيين. فمذذاك، صارت الحكومة تصر على التطهير بينما تقاوم رئاسة الأركان هذه الخطوة بحجة أن تسريح الضباط الكماليين قوضت معنويات القوات المسلحة. ولكن هذه المقاومة انهارت أخيرًا. فقبل أيام من المحاولة الانقلابية الفاشلة، كان واضحًا أن القضاء يستعد لتوجيه اتهامات إلى ألف ضابط بصلات بغولن، وأن قيادة الجيش ستوافق على قرارات أردوغان.
منطقة حرب
وإذ يقر كارافيلي بأن الحكومة التركية ستواجه صعوبة في تقديم أدلة قاطعة على ضلوع فصيل غولني في محاولة الانقلاب، وبأن الداعية الإسلامي نفسه متورط في المؤامرة، يقول: "مما لا شك فيه أن مناصرين لغولن في المؤسسات الحكومية والجيش مسؤولون مع أردوغان نفسه، عن تحويل الدولة التركية إلى منطقة حرب. كانت القوات المسلحة دائمًا ركيزة الدولة التركية، والآن صارت ممزقة نتيجة اقتتال داخلي"، مضيفًا أن "هذا الانفجار المؤسساتي سيستمر ويتوسع مع التطهير الجماعي للغولنيين الذي سيشمل آخرين لا علاقة لهم بالحركة. فأردوغان يستغل المناسبة لإعادة تأكيد سيطرته، ولكن هذا التطهير قد لا يستطيع إنقاذه في النهاية، ذلك أن انهيار السلطة والنظام والتلاحم في الدولة التركية بلغ مستوى مثيرًا للقلق. وعلى رغم فشلها، أرست المحاولة الانقلابية سابقة خطيرة".