عقب ظهور ما يُسمى بـ«الصحوة الإسلامية»، أصيب العقل الجمعي للمسلمين بلوثة الانغلاق، هذه اللوثة جعلت اهتمام من وقعوا ضحايا لتلك الصحوة منصبٌ على تجميل المظهر دون الجوهر، وأصبح الإسلام في مخيلة هؤلاء ووفقًا لما تجذر داخل وجدانهم هو جلباب قصير، ولحية كثة، ووجه عبوس، وأمر بالمعروف - حتى ولو لم يأتمر الآمر، ونهىٌ عن المنكر - حتى وإن لم ينتهي الناهي، وتباري في تكفير الآخر، وتفسيق وزندقة أى مسلم لا يعتنق ما يعتنقون.وفي البحث عن الله، يتوهم هذا صاحب العقل المنغلق أن الله - جل وعلا - تحده الجهات وتحيط به الأماكن، ولذلك هو يُعظم المساجد، ليس تعظيم توقير وتعلق ومحبة وإجلال؛ بل تعظيم انغلاقية ومحدودية فكر تجعله يزعم أن الله موجود فقط بين جدران المساجد، وهذا هو أحد أهم الأسباب التي تجعل كثيرون ممن يعتنقون هذا الفكر يرفضون الانصياع لقرارات الدولة وفتاوى دار الإفتاء والأزهر ويصرون على فتح المساجد والزوايا لإقامة الصلوات.
وحين يُصر أصحاب العقل المنغلق على إقامة الصلاة داخل المسجد، فهو لا يتحدى الدولة بقدر بحثه عن إله حبيس جدران المساجد؛ فإذا أغلقت المساجد فما الجدوى - عند هذا الدوغمائي - من تأدية صلاة في مكان ليس فيه الله؟ ولعل هذا الفهم الخاطئ للإسلام هو الذي دفع هؤلاء إلى دعوة الناس للنزول في مسيرات يضرعون فيها إلى الله بالدعاء كي ما يرضى ويرفع عنهم وباء كورونا المستجد، ولعل هذا الفهم الخاطئ - أيضًا - هو الذي يجعلهم يُؤَوِّلُونَ قرارات إغلاق المساجد وإلغاء الحج بأن الله غاضب على المسلمين ولذلك منعهم من دخول بيوته والطواف بالكعبة.
والحقيقة أن إغلاق المساجد، وحتى إسقاط فريضة صوم رمضان - في حال رؤية الأطباء ضرورة الإفطار حفاظًا على الأنفس -، بل وإلغاء الحج هذا العام، جميع هذه الإجراءات لا تعني من قريب أو بعيد أن الله غاضب على المسلمين؛ بل هي تدل دلالة قطعية على أن الله محبٌ لعباده - مسلمين وغير مسلمين - ورحيم بهم، وأن الغاية العظمى من أي دين هو حفظ الأنفس.
وإذا فندنا مزاعم أصحاب العقلية المنغلقة، التي يدعونّ فيها أن إغلاق المساجد دليل على أن الله غاضب على المسلمين، سنجد أنها تتنافى بالكلية مع الإسلام، وتتنافى كذلك مع ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر المنادي (أي المؤذن) فينادي: صلوا في رحالكم، في الليلة الباردة، وفي الليلة المطيرة في السفر.. فهل كان الله غاضبًا على رسوله صلى الله عليه وسلم حين منعه البرد والمطر من الصلاة في المسجد؟!
المساجد بيوت الله - وهذا حق -، لكن وجوده - سبحانه وتعالى - الحقيقي في القلوب؛ فإذا لم يكن الله في قلبك فلا ترهق نفسك بالبحث عنه في أي مكان لأنك لن تجده، وفي قصة العالم الصوفي أبي اليزيد البسطامي، عبرة وعظة؛ فقد مرّ هذا الرجل الصالح في سياحة له على ديرٍ وسأل راهبة كانت تقف على بابه: هل يوجد هنا مكان طاهر أصلي فيه؟ والسؤال ينم عن فكر ضيق كان متلبسًا بعقل البسطامي، أنساه أن القلب إذا عُمر بالمحبة والصلاح صارت الأرض كلها مسجدًا طاهرًا، وقد تعلم هذا الدرس من جواب الراهبة على سؤاله؛ إذ قالت له: «طهر قلبك وصلّ حيث شئت».
والأمر ذاته ينطبق على إسقاط فريضة صوم رمضان، وإلغاء الحج؛ فتعطيلهما لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن الله غاضب على المسلمين، بل إننا لو تفحصنا هذا الأمر بمنظور أوسع لوجدنا أن الله أراد أن ينبهنا إلى فعل خير غفل عنه كثيرون ممن يهتمون بالمظهر ويهملون الجوهر.
وبنظرة سريعة إلى حال المسلمين في شهر رمضان وأثناء موسم الحج؛ نجدهم ينفقون المليارات على الطعام ونفقات السفر والهدايا... إلخ، وفي حال استمرار مخاطر وباء كورونا المستجد، ستسقط فريضة الصوم - إذا رأى الأطباء هذا - وسيلغى الحج حفظًا على الأنفس من مغبة التجمعات، وفي هذا اختبار حقيقي للصائمين والحجيج؛ فإذا كانت عبادتهم خالصة لله سيعتبرون أنفسهم في طاعة وينفقون أموالهم على الفقراء، أو يتبرعون بها لبناء مستشفيات أو مدارس، أو أي عمل نافعٌ للإنسانية.
والأجدى والأنفع من التألي على الله والزعم بأنه غاضب على المسلمين، أن يسأل كل واحد منا نفسه: ماذا لو اجتمع أهل كل مدينة أو محافظة، وجمعوا الأموال التي كانوا ينون إنفاقها في رمضان وموسم الحج وقرروا تشييد صرح طبي يخفف الآلام المرضى ويحيي أنفسًا يقتلها الفقر والمرض؟! ماذا لو جمعوا تلك الأموال ودعموا بها اقتصاد الدولة؟! ماذا لو جمعوا تلك الأموال وكفلوا بها الأيتام أو أقالوا عثرات الفقراء والغارمين والغارمات؟! أليس أىٌ عمل من هذا عند الله خير وأبقى؟!
إذا حدث هذا وأنفقت هذه المليارات في عمل خيري ينتفع به الناس جميعًا؛ ألا يكون هذا تطبيق عملي لما أمرنا الله به حين قال: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32)، ولقد ضرب الإمام عبد القادر الجيلاني، أروع مثال على ما نذهب إليه، حين صعد المنبر خطيبًا للجمعة، وقال في خطبته الموصوفة بأقصر خطبة في التاريخ: «لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع.. وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع.. وخير ممن قام لله ساجد راكع.. وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع.. وخير ممن صام الدهر والحر واقع.. وإذا نزل الدقيق في بطن جائع كان له نور كنور الشمس ساطع.. فيا بُشرى لمن أطعم جائع.. وأقم الصلاة».
وقد جاء فيما روى بالأثر، أن عبد الله بن المبارك، وهو أحد كبار الصالحين والأولياء، وعاش في القرن الثاني الهجري، قال: كنت في العام الماضي حاجًا إلى بيت الله الحرام، وفي ليلة من ليالي منى رأيتني في الرؤيا نائمًا، وعند رأسي اثنان يتحدثان يقول الواحد منهما للآخر: أتدري كم هم الذين قَبِلَ الله حجهم في هذا العام؟ قال الثاني: لا، قال: إن كثيرًا منهم لم يقبل الله حجهم، ولكن صفح الله عنهم جميعًا وقبل حجهم بفضل «موفق الإسكافي الشامي» على أنه لم يحج معهم هذا العام.
يقول عبد الله بن المبارك: فاستيقظت وليس لي هَمٌّ إلا أن أعود إلى الشام، فأعثر على هذا الرجل، وأعلم قصته والسبب في هذا الفضل العظيم الذي أكرمه الله به، واتجهت إلى الشام، وأخذت أبحث وصبرت إلى أن عثرت عليه، وسألته ما خبرك مع الحج.. أحججت هذا العام؟ قال: لا، قلت: فحدثني عن قصتك، قال: وما السبب؟ قلت: حدثني؛ فإن حدثتني فسأخبرك.
فقال لي: أنا أعمل إسكافيًا، وكان من شأني منذ أول العام أن أدخر كل ما يزيد من نفقات بيتي راجيًا أن أحج بهذه الأموال في نهاية العام، أو العام الذي يليه إلى بيت الله الحرام، ولما دنا الموسم نظرت فوجدت أن المبالغ التي ادخرتها تبلغني الحج، فأخذت أعد العدة، وبينما أنا عائد إلى الدار ذات يوم استقبلتني زوجتي وكانت حاملًا، وكان يفوح من عند جيراننا رائحة شواء لحم؛ فأعطتني وعاءً وقالت لي: اذهب فاطرق باب جيراننا، وحدثهم عن وضعي، وأنني بحاجة إلى شيء من هذا الشواء الذي تفوح رائحته.
فأخذت الوعاء وطرقت الباب، وخرجت امرأة فقلت لها عن حاجة زوجتي، وطلبت منها أن تضع شيئًا من الشواء الذي تطبخه في هذا الوعاء؛ فنظرت إلىّ وتلبست ثم قالت: سأعطيك ولكن دعني أخبرك عن قصتي؛ فإن رأيت أن ذلك يصلح لكم أعطيتك، قلت: ما القصة؟ قالت: مات زوجي منذ زمن، ونفدت الأموال التي تركها لنا منذ أسابيع، وتضور أولادي جوعًا، ورأيت الهلاك يطرق بابهم ويتهددهم؛ فخرجت أبحث عن طعام دون جدوى، فوجدت على مقربة منا شاة قد نفقت (ماتت) وألقاها أصحابها، فأخذت قطعة منها وجئت بها إلى البيت لأقدم لهم منها طعامًا، يحميهم من الهلاك، ويسد رمقهم.
يقول الإسكافي: فرجعت وأنا ألطم وجهي، وقلت في نفسي: هذه جارتي تعاني وأولادها من هذا السغب الذي كاد أن يوديهم إلى الهلاك، وأنا أجمع المال من أجل أن أحج به إلى بيت الله الحرام، فأخذت هذا المبلغ الفائض لدىّ كله وعدت فطرقت بابها وقلت لها: خذي هذا مالٌ أرسله الله عز وجل إليك. فقال له عبد الله بن المبارك: أبشرك بأن الله لم يكتب لك أنت حجة فقط؛ بل قبل حجة الحجيج أجمع بسبب هذا الخير الذي صنعته.
إن وباء كورونا المستجد، سينتهي وستنتصر عليه الإنسانية بالعلم، وستفتح المساجد أبوابها وتستقبل المصلين، وسيطوف الحجيج والمعتمرين حول الكعبة من جديد، وكل ما أتمناه أن نعود نحن أيضًا إلى إنسانيتنا التي فقدناها في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من التسارع الحياتي.. كل ما أتمناه أن نستثمر هذا الظرف الإستثنائي في تاريخ البشرية لنخرج الفقراء من ضيق العوز إلى رحابة الإكتفاء.. كل ما أتمناه أن نستثمر هذا الظرف الاستثنائي لنحيي فريضة التكاتف والتعاون، ونهتم بإعمار الأرض بالعلم - هذه المهمة السامية التي خلقنا الله من أجلها.