في ظل تصاعد الجدل السياسي والإعلامي حول اتصالات سرية مزعومة بين السلطات السورية الجديدة وإسرائيل، أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في العاصمة اللبنانية بيروت ورقةً تقديرية بعنوان: 'محددات الموقف السوري من العلاقة مع إسرائيل'. تأتي هذه الورقة في توقيت حساس للغاية، خاصة بعد التصريحات اللافتة للرئيس السوري أحمد الشرع، التي أشار فيها إلى وجود 'أعداء مشتركين' بين سوريا وإسرائيل، مما أثار تساؤلات عميقة حول التحولات المحتملة في السياسة السورية الخارجية وحيث لم يعد أمام سوريا سوى الانفتاح على إسرائيل وهو ما سيمثل نهاية التاريخ للسلفية الجهادية التي تحكم سوريا حاليا والتي بنت تصورها للمشروع الإسلامي على ركائز من بينها محاربة إسرائيل وتحرير المسجد الأقصى
.
وقد أعدّ هذه الورقة الباحث والكاتب الفلسطيني عاطف الجولاني، مقدّماً قراءة تحليلية معمقة لأبرز محددات هذا التحول، ومؤشرات الانفتاح المحتمل، إلى جانب استشراف التوجهات المستقبلية للعلاقة بين الطرفين. وقد تزايدت المؤشرات خلال الشهرين الأخيرين إلى حصول تغيّر مهم على موقف القيادة السورية الجديدة من العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، حيث أظهرت المزيد من المرونة السياسية والرغبة بالتهدئة وتجنّب العلاقات العدائية، كما عبّرت عن الاستعداد لإجراء تواصلات بين الطرفين. الأمر الذي يطرح التساؤلات حول دوافع التغيّر في موقف القيادة السورية ومحددات سلوكها المستقبلي في إدارة العلاقة مع الكيان الصهيوني.
محددات الموقف السوري: عوامل داخلية وخارجية
تناولت الورقة مجموعة من المحددات التي تؤثر في موقف القيادة السورية لإدارة علاقاتها مع الجانب الإسرائيلي، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل داخلية وخارجية:
أولاً: المحددات الداخلية
التوجهات الأيديولوجية: تؤثر التوجهات الفكرية والسياسية السابقة للرئيس السوري أحمد الشرع وحركة أحرار الشام، ذات الخلفية الإسلامية الجهادية، في رسم السياسة الخارجية.
العامل الأمني: تسعى القيادة السورية لتحقيق الاستقرار وتثبيت أركان النظام السياسي الجديد، في ظل تحديات أمنية داخلية وخارجية معقدة.
الموقف الشعبي: يتميز الشعب السوري بموقفه التقليدي الداعم للقضية الفلسطينية والرافض لأي علاقة مع إسرائيل.
إرث النظام السابق: ورثت القيادة الحالية موقفًا متشددًا من النظام السوري السابق تجاه إسرائيل، ورفضًا قاطعًا للتطبيع على مدى عقود.
الرغبة الاقتصادية: هناك رغبة قوية لدى القيادة السورية في رفع العقوبات الاقتصادية، ومواجهة الأعباء الناجمة عن الانهيار الاقتصادي، وتسريع عملية إعادة الإعمار.
ملف الأقليات: تسعى القيادة لقطع الطريق على استثمار إسرائيل لملف الأقليات في زعزعة الاستقرار الداخلي.
ثانياً: المحددات الخارجية
الإدارة الأمريكية: تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتهدئة بؤر التوتر في المنطقة، وتعزيز مسار التطبيع العربي الإسرائيلي ليشمل العلاقات السورية الإسرائيلية، وقطع الطريق على النفوذ الإيراني والروسي في سوريا.
التأثير التركي: تلعب تركيا دوراً قوياً في خيارات القيادة السورية الجديدة بخصوص إدارة العلاقة مع إسرائيل، وترغب أنقرة في تعزيز شرعية القيادة السورية إقليمياً ودولياً كحليف سياسي رئيس في المنطقة.
السلوك الإسرائيلي: يتميز السلوك الإسرائيلي بالاندفاع العسكري في سوريا والمنطقة، واحتلال مناطق جديدة داخل الأراضي السورية. ترغب القيادة السورية الجديدة في تجنب الصدام العسكري لصالح الأولويات السياسية والأمنية والاقتصادية الداخلية.
مسار التطبيع العربي: تلعب بعض الأطراف الخليجية المنخرطة في مسار التطبيع دوراً في التأثير على توجهات النظام السوري باتجاه الانفتاح على الجانب الإسرائيلي.
مؤشرات التغيّر في الموقف السوري الرسمي
شهدت الأسابيع الأخيرة تزايدًا في المؤشرات التي تدل على تغير ملحوظ في الموقف السوري تجاه إدارة العلاقة مع إسرائيل:
لقاءات الكونغرس: في 18 أبريل 2025، التقى عضو مجلس الكونغرس الأمريكي كوري ميلز الرئيس السوري في دمشق، وصرح ميلز بأن الشرع أبدى انفتاحاً على تحسين العلاقات مع إسرائيل، وأن سوريا مهتمة بالانضمام إلى 'اتفاقيات أبراهام' عند توفر الظروف. كما التقى عضو الكونغرس مارلين ستوتزمان بالرئيس الشرع في 21 أبريل 2025، وتحدث عن رغبة الشرع في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مشيراً إلى أن ذلك مرهون بضمان سيادة سوريا ووحدة أراضيها. ونقلت شبكة الجزيرة عن مصدر سوري تأكيد الشرع على ضرورة توقف إسرائيل عن قصف سوريا والانسحاب من الجولان قبل الحديث عن أي اتفاقيات.
محادثات مباشرة: في 16 مايو 2025، نقلت شبكة سي إن إن الإخبارية عن مصدر إسرائيلي قوله إن محادثات مباشرة أُجريت في أذربيجان بين الجانب الإسرائيلي والنظام السوري الجديد، بمشاركة رئيس هيئة العمليات في الجيش الإسرائيلي عوديد بسيوق وممثلين عن الحكومة السورية، بحضور مسؤولين أتراك.
مفاوضات غير مباشرة: عقب لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس في 7 مايو 2025، أكد الرئيس السوري أن بلاده تُجري مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء لتهدئة الأوضاع.
قناة اتصال إماراتية: في 7 مايو 2025 أيضاً، قالت وكالة رويترز إن الإمارات أنشأت قناة اتصال خلفية للمحادثات بين إسرائيل وسوريا، وأن المحادثات غير المباشرة تركز على القضايا الأمنية والاستخباراتية وبناء الثقة. وأشارت إلى أن هذه الجهود بدأت بعد أيام قليلة من زيارة الشرع للإمارات في 13 أبريل 2025.
إعادة ممتلكات إيلي كوهين: في 18 مايو 2025، أعلنت إسرائيل استعادتها مجموعة وثائق وصور وممتلكات شخصية تعود للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، مشيرة إلى تعاون الموساد مع جهاز استخبارات أجنبي. وقالت وكالة رويترز إن الخطوة السورية تهدف إلى تخفيف العداء الإسرائيلي وإظهار حسن النية تجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
التوجهات المستقبلية للعلاقة مع إسرائيل
تبدو القيادة السورية أمام ثلاثة خيارات مستقبلية رئيسية في إدارة العلاقة مع إسرائيل:
الحفاظ على الثوابت: الالتزام برفض التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني مع إسرائيل، والتعامل بحذر مع أي استحقاقات أمنية اضطرارية لكبح السلوك العسكري الإسرائيلي.
الانفتاح الجزئي المتدرج: تبني سياسة انفتاح وتقارب جزئي متدرج مع إسرائيل، وتسويق ذلك بالضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية.
الاندفاع نحو التطبيع: الانخراط في عملية تطبيع ثنائي أو جماعي تقودها أطراف عربية منخرطة في مسار التطبيع و'الاتفاقيات الإبراهيمية'.
على الرغم من عدم وجود رغبة ذاتية لدى القيادة السورية في الانفتاح الكامل على إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، وذلك بتأثير توجهاتها الأيديولوجية السابقة وضغط الموقف الشعبي المؤيد للقضية الفلسطينية، فإن المواقف الأخيرة للقيادة السورية ترجح احتمالات التوجه نحو خيار الانفتاح الجزئي المحسوب. هذا المسار يهدف إلى الخروج من 'عنق الزجاجة' وتجاوز المأزق السوري، بشكل متدرِّج يتم تسويقه بمبررات اقتصادية وأمنية، وبالرغبة في تعزيز شرعية النظام وتطوير علاقاته السياسية مع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. وتتأثر هذه العملية بالتوجهات التركية وأجندات بعض الأطراف الخليجية المنخرطة في مسار التطبيع.
الخلاصة والتحديات المستقبلية
تُشير الورقة إلى أن سلوك النظام السوري الجديد يتسم بالكثير من الحذر حتى اللحظة في إدارة العلاقة مع إسرائيل. ومع ذلك، فإن تموضعه العربي والإقليمي والدولي، وخبرة الأطراف الإقليمية والدولية في عمليات إعادة التأهيل، قد تُضعف قدرته على الممانعة وتُضيّق عليه كثيراً من مساحات المناورة.
في هذا السياق، يأتي قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 13 مايو 2025 برفع العقوبات عن سوريا، والذي تبعه قرار مماثل عن الاتحاد الأوروبي في 20 مايو 2025. هذه الخطوات تُفسر على أنها محاولة للتأثير في خيارات النظام الجديد في سوريا واستيعابه ليكون جزءًا مما تُصنفه واشنطن بـ'حالة اعتدال عربي' تنفتح أطرافها بمستويات متباينة على التطبيع مع إسرائيل. ويُلاحظ أن جهوداً أمريكية مماثلة تُبذل لاستيعاب القيادة السياسية الجديدة في لبنان ضمن الحالة السياسية ذاتها.
تُشير الورقة إلى أنه حتى لو اختارت القيادة السورية السير في مسار التطبيع والانفتاح على إسرائيل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة الحصول على درجة الرضا الكاملة التي تسعى إليها. إذ إن عناصر الابتزاز والضغط الإسرائيلي والأمريكي والغربي ستتواصل لتنفيذ الكثير من الطلبات وتحقيق العديد من المعايير، التي قد تفقد النظام السوري عناصر هويته الوطنية والقومية والإسلامية، وتُخضعه لمنظومة الهيمنة الإسرائيلية والغربية. كما أن عناصر الشك والتخوف ستبقى قائمة تجاه قادة سوريا الجدد بسبب خلفياتهم الأيديولوجية، مما يعني أن الإسرائيليين والقوى الغربية ودول التطبيع ستفضل سياسة التدرج المشروط، وربما تغيير هذه القيادة إلى قيادة أكثر براجماتية وولاء وانسجاماً مع الهيمنة الإسرائيلية الغربية في المنطقة.
وبالتالي، فإن 'لعبة التوازنات' وإدارة الأولويات تبدو في غاية الحساسية لدى القيادة السورية. وسيكون من الخطورة بمكان أن تفقد حاضنتها الشعبية ومصداقيتها الثورية التغييرية دون الحصول على الرضا الغربي. وعلى هذا، فإن الاستناد إلى الثوابت الوطنية والقومية والإسلامية، ونبض الشعب السوري والأمة، يبقى الأساس عند اللجوء إلى التعامل المرن والانفتاح والأداء السياسي المرحلي مع المعطيات الواقعية الضاغطة.