تمر العلاقات بين الصين واليابان بمرحلة شديدة الحساسية، تتداخل فيها الحسابات الأمنية مع التنافس الجيوسياسي، في ظل تصاعد التوتر حول ملف تايوان واتساع دائرة الشكوك المتبادلة بين الجانبين. ومع تصاعد حدة الخطاب السياسي والعسكري، تزداد المخاوف من انزلاق غير محسوب قد يهدد استقرار المنطقة بأكملها، في وقت تحاول فيه أطراف دولية إدارة الخلافات دون الوصول إلى مواجهة مفتوحة.
ويرى مراقبون أن الأسابيع الأخيرة شهدت تصعيدًا لافتًا في السجال بين بكين وطوكيو بشأن تايوان، وسط قلق متزايد من غموض الموقف الأمريكي، الذي امتنع عن الانحياز الصريح لأي طرف، مكتفيًا بمحاولات تهدئة الخطاب ومنع تفاقم الأزمة.
وتعود جذور التوتر الأخير إلى تصريحات أدلت بها رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايشي أمام البرلمان، قالت فيها إن أي أزمة حول تايوان قد تدفع الصين إلى نشر سفن حربية والنظر في استخدام القوة، وهو ما ستعتبره اليابان تهديدًا مباشرًا لأمنها وبقائها، وقد يفرض عليها التفكير في تدخل عسكري. ورغم أن هذا التوجه كان حاضرًا ضمنيًا في السياسة اليابانية، فإن هذه التصريحات اعتُبرت الأولى من نوعها التي تُطرح بهذا الوضوح على لسان رئيس حكومة ياباني أثناء توليه المنصب.
وجاء رد بكين حادًا، حيث حذرت من أن أي تدخل ياباني سيؤدي إلى «هزيمة ساحقة»، وأطلقت عبارات تحذيرية من قبيل أن «من يلعب بالنار سيهلك بها»، كما دعت مواطنيها إلى تجنب السفر إلى اليابان، وصعّدت في الوقت نفسه من تحركاتها العسكرية الاستفزازية قرب الجزر اليابانية.
في المقابل، أثار الموقف الأمريكي انتقادات داخل اليابان، إذ رأى مسؤولون وخبراء أن واشنطن تتبنى قدرًا كبيرًا من الغموض. فعلى الرغم من تأكيدات دبلوماسية أمريكية بدعم طوكيو في مواجهة ما وُصف بالإكراه الصيني، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب امتنع عن إعلان دعم صريح لليابان، وذهب إلى حد القول إن «الكثير من الحلفاء ليسوا أصدقاء أيضًا»، في إشارة فُهمت على أنها رسالة تحفّظ.
وفي 24 نوفمبر، أجرى ترامب اتصالًا مع الرئيس الصيني شي جين بينج، شدد خلاله الأخير على أن «عودة تايوان إلى الصين جزء لا يتجزأ من النظام الدولي بعد الحرب». وترددت أنباء عن أن هذه المكالمة دفعت ترامب إلى مطالبة طوكيو بتجنب استفزاز الصين، وهو ما نفته الحكومة اليابانية لاحقًا.
ويرى مراقبون أن تشدد ترامب تجاه اليابان، بما في ذلك فرض رسوم جمركية بنسبة 15% ووصف التحالف الأمريكي–الياباني بأنه «أحادي الجانب»، إلى جانب الاتفاقات التجارية مع بكين، ساهم في وضع اليابان في موقف أكثر توترًا، مقابل ازدياد تصلب الموقف الصيني، ما غذّى الأزمة الحالية.
كما حذر محللون من أن فتور الموقف الأمريكي يتناقض مع حالة القلق التي أثارها رد الفعل الصيني لدى حلفاء وشركاء واشنطن في المنطقة، مثل أستراليا وكوريا الجنوبية والفلبين والهند، في ظل مخاوف من أن يدفع أي تراجع أمريكي حلفاءه للبحث عن بدائل استراتيجية.
وترتبط المخاوف اليابانية بتنامي القوة العسكرية الصينية وتداعيات أي تطور درامي في تايوان، إذ ترى طوكيو أن سقوط الجزيرة قد يهدد أمنها الغذائي والطاقي والاقتصادي. وربما كانت هذه المخاوف وراء صدور بيان أمريكي في 9 ديسمبر أكد أن التحالف الأمريكي–الياباني «أقوى وأكثر وحدة من أي وقت مضى»، وأن التزام واشنطن تجاه طوكيو «لا يتزعزع»، وإن ظل ذلك محاطًا بهامش من الغموض.
في المقابل، لدى بكين بدورها أسباب عميقة للقلق، فغزو اليابان للصين بين عامي 1931 و1945، الذي أسفر عن مقتل نحو 14 مليون صيني، لا يزال حاضرًا بقوة في الذاكرة الجماعية، رغم اعتذارات طوكيو الرسمية. ويثير الجدل استمرار إنكار أو التقليل من هذه الجرائم من قبل بعض التيارات اليابانية، فضلًا عن ارتباط اسم تاكايشي بقراءات تنقيحية للإمبريالية اليابانية وزياراتها لضريح ياسوكوني، الذي يضم أسماء قادة عسكريين ارتبطوا بفظائع تاريخية.
وتتمتع تاكايشي أيضًا بعلاقات وثيقة مع تايوان، حيث دعت في أبريل 2025 إلى ما وصفته بـ«تحالف أمني شبه رسمي» بين ديمقراطيات منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعلى نطاق أوسع، تشهد سياسة «الصين الواحدة» التي تتبناها طوكيو تراجعًا تدريجيًا منذ سنوات، مع ازدياد استعداد الساسة اليابانيين للتعبير علنًا عن دعمهم لتايوان، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتعهدت الحكومة اليابانية برفع ميزانية الدفاع إلى 2% بحلول مارس 2026، ومع امتلاكها قدرات عسكرية متقدمة وانتشارها على أرخبيل واسع، تستطيع طوكيو تقييد وصول الصين إلى المحيط الهادئ. كما أن حصولها مؤخرًا على قدرات هجومية مثل صواريخ «توماهوك» يعكس تحولا في العقيدة الدفاعية اليابانية.
وفوق ذلك، تستضيف اليابان نحو 55 ألف جندي أمريكي، إلى جانب قدرات عسكرية متقدمة، ما يجعلها ركيزة أساسية في الانتشار العسكري الأمريكي القريب من الصين، وهو ما قد يخلق توازنات خصومية تُغذّي دوائر تصعيد متلاحقة.
ويرى مراقبون أن استمرار هذا المسار ينطوي على مخاطر اقتصادية وسياسية جسيمة، إذ قد تلجأ الصين إلى استخدام نفوذها الاقتصادي، مثل فرض قيود على المعادن النادرة، بينما قد ترد اليابان بتقييد صادرات المكونات الإلكترونية المتقدمة. كما قد تدفع هذه التوترات بكين إلى تعزيز تقاربها مع روسيا وكوريا الشمالية، في مشهد يزيد من تعقيد البيئة الأمنية الإقليمية.
وفي ظل هذه المعطيات، يحذر محللون من أن سوء الحسابات والنزعات القومية قد تجر الولايات المتحدة إلى صراع كارثي، سواء حول تايوان أو جزر سينكاكو أو بؤر توتر أخرى. ويخلص هؤلاء إلى أن خفض التصعيد بات ضرورة ملحة، عبر الحفاظ على نهج متوازن يشجع طوكيو على التركيز على الإجراءات الدفاعية وتجنب الاستفزازات، بما يحد من مخاطر الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة لا رابح فيها.