في خضم الجدل الذي أثارته تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بشأن إنشاء بؤر “ناحل” الاستيطانية في شمال قطاع غزة، كشف تقرير إسرائيلي آخر، مرّ دون صدى واسع، عن خطوة لا تقل خطورة، تمثلت في نقل مكاتب “الإدارة المدنية” من قيادة فرقة “يهودا والسامرة”، في إطار ما وُصف بأنه عملية “توطين إداري” تهدف إلى تقديم الخدمات لسكان الضفة الغربية كما لو كانوا مواطنين داخل إسرائيل.
ورغم أن الخطوة بدت إجرائية للوهلة الأولى، إلا أن محللين إسرائيليين يرون فيها مؤشرًا على تحول جذري يجري دفعه بهدوء منذ 7 أكتوبر، يعكس تغيرًا عميقًا في وجه الدولة العبرية وطبيعة مشروعها السياسي. فبحسب هذا التوجه، يتم العمل تدريجيًا على دمج الضفة الغربية، التي تُطلق عليها إسرائيل اسم “يهودا والسامرة”، في البنية الإدارية والقانونية لإسرائيل، في خطوة تُعد حجر أساس في ما يُعرف بـ“خطة الحسم” التي يتبناها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
مشروع دولة واحدة وإلغاء الخط الأخضر
تسعى هذه الخطة، وفق مراقبين، إلى محو الخط الأخضر، وإضعاف السلطة الفلسطينية وصولًا إلى تدميرها، وإقامة دولة واحدة تمتد “من البحر إلى النهر”، مع تغيير جذري لهوية الضفة الغربية. ويتم ذلك عبر توسيع المستوطنات، وإنشاء مزارع وبؤر جديدة، ودمج البنى التحتية في الضفة مع نظيرتها داخل إسرائيل، بالتوازي مع تقليص نفوذ السلطة الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
ويرى محللون أن الرؤية القطاعية لتيار “الصهيونية الدينية” لم تعد مجرد طرح أيديولوجي هامشي، بل تحولت فعليًا إلى مشروع قومي رسمي، يُنفذ على الأرض حتى في ظل غياب إجماع شعبي واضح أو نقاش عام معمق حول تداعياته. ويصف بعضهم هذا المسار بأنه انقلاب أيديولوجي صامت فرضته ظروف سياسية مضطربة أكثر مما نتج عن قرار استراتيجي معلن.
تغليف أيديولوجي بذرائع أمنية
ويشير خبراء إسرائيليون إلى أن هذا التحول يُسوَّق داخليًا عبر ذرائع استراتيجية وأمنية، في محاولة لتخفيف وطأة أبعاده الأيديولوجية والدينية. فبدل الإعلان الصريح عن أهداف التوسع والسيطرة، يتم الترويج لمشاريع استيطانية على أنها دروس مستخلصة من هجوم 7 أكتوبر، أو بوصفها حلولًا أمنية واقتصادية، مثل الحديث عن صفقات عقارية ضخمة أو بناء مساكن للشرطة في قطاع غزة.
وفي هذا السياق، تُستخدم عبارات صادمة في الخطاب السياسي والإعلامي، من قبيل:
“العربي لا يفهم إلا إذا نُزعت أرضه منه”، أو “حيثما يوجد الاستيطان لا يوجد الإرهاب”، وهي مقولات يعتبرها محللون ادعاءات أيديولوجية لا تستند إلى حقائق موضوعية، وتخلط بين التحليل الأمني المهني والرؤية العقائدية الصلبة.
قلق دولي ومخاوف من مستقبل دموي
على عكس الخطاب السائد داخل إسرائيل، يدرك المجتمع الدولي، بحسب محللين، أن التغييرات العميقة الجارية في الضفة الغربية تهدف عمليًا إلى إغلاق الباب أمام حل الدولتين، وفرض واقع الدولة الواحدة بنظامي مواطنة مختلفين. ويثير ذلك مخاوف متزايدة من تصاعد الاحتكاك العنيف بين المستوطنين والفلسطينيين، لا سيما في ظل ما يُنظر إليه على أنه غطاء سياسي وحكومي لهذا العنف.
ويرى مراقبون أن هذا المسار ينذر بمستقبل دموي إذا ما فُرض الاندماج القسري بين مجتمعين غير متكافئين في الحقوق والواجبات، في ظل استمرار الاعتماد على القوة وتهميش أي أفق سياسي.
صورة إسرائيل داخليًا وخارجيًا
في هذا الإطار، تتعزز صورة إسرائيل، وفق محللين، كدولة تعاني اختلالًا في التوازن؛ داخليًا عبر تقويض قواعد الحكم والمؤسسات، وهو ما يشبهها، بنظر بعض المراقبين في المنطقة، بدول تعاني هشاشة سياسية مزمنة، وخارجيًا عبر سياسات تُوصف بالمتهورة، تعتمد على القوة وحدها وتتجاهل القيود الدولية والاعتبارات الإقليمية.
ويستشهد محللون على ذلك بما وُصف بهجوم دبلوماسي فاشل على قطر، وبإدارة حرب مدمرة في غزة دون أهداف سياسية واضحة، وهي سياسات قادت، بحسب التقديرات، إلى ضغوط أمريكية متزايدة انتهت بفرض إنهاء الحرب وتقليص هامش المناورة الإسرائيلية في المنطقة.
خلاصة
يعكس المشهد الحالي، وفق هذا التحليل، انتقال إسرائيل من إدارة صراع سياسي–أمني إلى تنفيذ مشروع أيديولوجي شامل، يجري تسويقه بغطاء استراتيجي، لكنه يحمل في طياته تداعيات خطيرة على مستقبل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وعلى استقرار المنطقة برمتها، في ظل غياب رؤية سياسية جامعة، وتنامي خطاب الإقصاء والقوة بوصفه الحل الوحيد.