'قسوة أبويا موتت قلبي'.. بتلك الكلمات الحزينة التي يسكنها الوجع بدأت فتاة سمراء الوجه بشوشة الملامح، حافية القدمين، ترتدي ملابس تبدو للرائي أنها تتنكر في زي الرجال لممارسة مهنتها الشاقة، حديثها، عن سبب شهرتها وسط أهالي قريتها بـ'حفارة القبور'، ولتكشف للجميع السر وراء حملها لقب أول امرأة على مستوى الجمهورية تمتهن مثل هذه المهن التي عُرفت من قديم الأزل أنها خاصة للرجال لصعوبة تنفيذها.
أول حفارة للقبور في صعيد مصر
هي صبرية السباعي وشهرتها 'منى قوت' فتاة إربعينية لم تتزوج بعد، تعمل بمهنة 'حفر المقابر' بقرية الحلة، مركز قوص، جنوب محافظة قنا، لتتمكن من الإنفاق على أسرتها المكونة من 8 أفراد، كأول سيدة على مستوى صعيد مصر وإن لم يكن الجمهورية، تعمل هذه المهنة التي يصاحبها عدة مهن شاقة منها طلوع النخيل لجنيه، والعمل بالمنازل، وإزالة القمامة، وبيع الخضروات، كل ذلك لتحصل على رزق من عرق جبينها، بعد تخلي والدها وإخوتها الذكور عنها.
محررة أهل مصر في لقائها مع أول حفارة قبور بقنا
قسوة والدها وانفصاله عن والدتها جعلتها ترفع شعار 'السعي يجلب الرزق'، رفعت راية العمل عبادة ووضعتها على جبينها ولم تخجل أبدا من مواجهة العادات والتقاليد، ليس بعمل سيدة بل واجهته بمهنة لم يألفها المجتمع من السيدات، وهذا ما واجهته بالفعل إلا أنها بقوة عزيمتها وإيمانها بما تقدمه كسبت ثقة الجميع، وحصلت على دعم من كانوا يسيئون إليها، لتستمر في مهنتها ما يزيد عن 5 أعوام، على الرغم من صعوبتها، فأنها بإصرارها والحاجة التي فيها أسرتها، مكنتها من تثبيت قدرتها على تحدي الصعاب.
صبرية السباعي أول حفارة قبور بصعيد مصر داخل قنا
قالت 'صبرية السباعي' في لقائها مع 'أهل مصر'، أنها تعمل في مهنة حفر القبور منذ 5 أعوام، بدأتها بالتطوع مع شباب قرية الحلة، واستمرت تمارسها يوميًا مع حفارين رجال حتى امتهنتها وأصبحت تعيش قصص وحكايات معها، ولتعودها على العمل الشاق منذ طفولتها، فلم تشعر بالألم والوجع الذي يصيب قدميها ويديها من إمساك الآلات الحادة الثقيلة لفترات طويلة حتى تنتهي من حفر أي قبر.
وأضافت 'حفارة المقابر' أنها مع بداية عملها في المقابر انتقدها الجميع كونها سيدة وليس من عادات وتقاليد القرية وجود سيدات أثناء دفن الموتى، لكن إصرارها على التطوع وعمل الخير أقنعت الجميع بامتثالها هذه المهنة بل وأصبحوا يساندونها ويطلبون منها الحفر عند وجود حالة وفاة مفاجئة.
قسوة أبويا موتت قلبي
لم أعد أخاف من ظلام القبور 'فقسوة أبويا موتت قلبي' بعد أن انفصل عن والدتها منذ طفولتها وهجرهما وشقيقتها الصغرى لم تكمل الشهرين، بل وتخلى عن تعليمها وتعليم شقيقتها، فاضطرت تترك المدرسة وهي في الصف الرابع الإبتدائي لتسرح في شوارع قريتها بحثًا عن العمل، فعملت بمختلف المهن جني الخضروات، حمل القمامة، طحن الدقيق، وأخيرا طلوع النخيل، وحفر المقابر، كل ذلك لتجد مصدر رزق تعيل به أسرتها، أهملت حياتها وظلت تكافح حتى زوجت شقيقتيها دون تحمل والدها قرش واحد عليهما، وتطرقت في حديثها والدموع تملأ عينيها لتتذكر ذات مرة في أحد الأعياد الغرباء أدخلوا عليهم اللحوم ووالدها ذبح أضحية العيد ولم يتذكرهم حتى بالزيارة، بل تبرأ منهم تمامًا، لدرجة أنه سجلها متزوجة حتى لا تحصل على سلع تموينية مع والدتها.
مواقف وحكايات تقشعر لها الأبدان
تروي 'حفارة المقابر' ..أن من أصعب المواقف التي تقابلها أثناء عملها بحفر المقابر هي رؤيتها للحزن و'الصويت' يوميًا من قبل أهالي المتوفيين، وإصرارها على عدم دخول قبة القبر مرة أخرى بعد ما شاهدته في المرة الأولى وما كان سوف يحدث لها من اختناق أثناء دخولها لقياس مسافته، وألمها عند رؤية الجثث المحروقة والأشلاء في حوادث وأصعبها جثث الشهداء يكون هناك حشد كبير من المواطنين فوق قبره، فلم يكن أمامها في تلك المواقف سوى العمل والدموع تنهمر من عينيها حزنًا على المتوفي ومواساة لعائلته.
منزل أول حفارة قبور في صعيد مصر بقنا
أول حفارة قبور مع والدتها في قنا
الاستعداد لدفن ضحايا كورونا
ومع بداية انتشار فيروس كورونا بمركز قوص، بحسب منى قوت، انضمت إلى إحدى المبادرات الشبابية لحفر مقابر لضحايا كورونا، مشيرة إلى أن طلبها قوبل بالرفض في البداية إلا أنها أصرت على المشاركة بحثًا عن الثواب والأجر من الله، دون الخوف من العدوى.
ماذا عن لقب "طالعة النخيل"
أشارت 'حفارة المقابر' إلي أنها نظرًا لكونها سيدة وتعمل بالمهن الشاقة فكل مهنة تمتثلها تشتهر بها من تلك المهن طلوع النخيل، الذي جاء أثناء محاولتها جني إحدى النخيل المنزرعة أمام منزلها، حيث تسلقت وقامت بجنيها دون مساعدة أحد، وظلت تطلع تجني النخيل المجاور لها حتى أصبح جيرانها يستعينون بها في الجني مقابل مبلغ مادي بسيط لا يتجاوز الثلاثين جنيهًا، ولكنها كانت تفرح به كثيرًا كونها تعاني الحاجة والفقر هي وأسرتها، ومنذ عدة أعوام وهي تطلع النخيل حتى اشتهرت بـ 'طالعة النخيل'، وأصبحت من مهنها ولكن في موسم واحد.
حفارة القبور أثناء عملها في طلوع النخيل بموسم الجني
ثعبان الكوبرا يلتف حول جسد "حفارة المقابر"
ذكرت 'منى قوت'، حفارة المقابر، أو طالعة النخيل، أنه من أصعب المواقف التي واجهتها في مهنة طلوع النخيل عندما تسلقت النخلة وفي منتصفها شاهدت ثعبان الكوبرا فارتعشت خوفًا وما عليها سوى القول له 'لا تؤذيني ولا نؤذيك' وما على الثعبان سوى الالتفاف حول جسدها لينزل إلى أسفل دون أذيتها، وأكملت عملها في الجني، وآخر تذكره أثناء طلوعها لنخلة تسقط فجأة بها على الأرض وما أصابها سوى كدمات وخدوش بسيطة فاستعجب الجميع لأمرها وذلك يدل على وقوف الله معها لتحميلها مسئولية أسرة كاملة.
منزل أول حفارة قبور بصعيد مصر في قنا
لحظات مؤلمة لحفارة القبور
'لحظات الوجع زادت في حياتي لدرجة أنني لما أشعر بها حاليًا'..هكذا عبرت 'حفارة المقابر' عن ألمها الجسدي الذي يتراكم في قدميها كونها تتسلق النخيل حافية والدماء تنزف منهما، أو أثناء حفر القبور فلم تحفر سوى حافية أيضًا، أما عن يديها التي اعتادت على إمساك الآلات الحادة مثل 'الكوريك والمعزقة' أثناء حفر المقابر، والمنجل أثناء طلوع النخيل لجني البلح.
مقابلة الرئيس السيسي لمساعدتي "غايتي"
في نهاية حديثها تمنت 'حفارة المقابر' مقابلة الرئيس السيسي، لمواساتها عما رأته من صعوبات وألم في حياتها، كما أنها تطالب من مسئولي محافظة قنا النظر إليها لمساعدتها في المعيشة بافتتاح مشروع لها أو بناء منزل بسيط يرحم والدتها المريضة من معاناة الطلوع على سُلم من الطوب اللبن وآيل للسقوط، أو معاش شهري آخر يساعدها في تربية أبناء شقيقتها الخمسة حيث لا يوجد معيل لهم بعد وفاة والدهم وهي تتحمل مسئوليتهم.