على ضفتي نهر النيل، لم تكن العلاقة بين مصر والسودان يومًا مجرد تداخل حدود أو تشابه لهجات، بل كانت دومًا رباطًا من دمٍ وأخوةٍ ومصيرٍ مشترك، وعلى أرض الواقع، تثبت الأيام أن ما يجمع الشعبين ليس فقط التاريخ واللغة، بل المواقف التي تظهر المعادن في الشدائد قبل الرخاء.
وفي قلب الريف المصري، بمدينة بلبيس التابعة لمحافظة الشرقية، نسجت الحياة فصلاً جديدًا من فصول الإنسانية والأخوّة، كان بطله أسرة سودانية شردتها الفتن الدامية في وطنها، لتجد على أرض مصر بيتًا جديدًا، وقلوبًا مفتوحة، واحتضانًا يفوق حدود الجغرافيا.
مشهد غير اعتيادي في مزرعة هادئة
في صباح لم يكن عاديًا، استيقظت تلك الأسرة السودانية، التي لجأت إلى مصر باحثة عن الأمان، على وجع مفاجئ، كانت الزوجة، في عقدها الثالث، تعيش لحظات المخاض الأخيرة في مزرعة نائية استقرت بها الأسرة منذ فترة، لم يكن هناك مستشفى قريب، ولا جيران حولهم يسمعون أنين الألم المتصاعد.
الزوج، وسط ارتباك اللحظة، لم يكن يملك سوى دراجة نارية صدئة، قادها بجنون بحثًا عن نجدة، حتى شاء القدر أن تقوده إلى نقطة إسعاف "المصانع"، حيث كانت سيارة الإسعاف "كود 1165" على أهبة الاستعداد.
طرق الأب باب النقطة بعنف، لم يكن معه تأمين صحي، ولا أوراق تثبت هويته، فقط كان يحمل نداء استغاثة من زوجته وطفلته القادمة، لكن ما وجده لم يكن تساؤلات عن "الأوراق"، بل استجابة فورية لنداء الإنسانية.
المسعف وحيد عبد المنعم محمد، وزميله حسن محمد حسن، لم يسألاه عن ديانته، أو جنسيته، أو حتى مقدرته المالية، بل التقطا معدات الإسعاف وتبعا الأب بسرعة على دراجته حتى المزرعة.
بمجرد الوصول، وقبل حتى الوصول إلى المستشفى، بدأت الأم في ولادة الطفلة، تعامل رجال الإسعاف باحترافية إنسانية نادرة، قام المسعف وحيد بطمأنة الأم، وتوجيهها، ومساعدتها على الولادة وسط ظروف شديدة التواضع.
في لحظات، أبصرت مولودة سودانية النور على أرض مصرية، في مشهد تجلى فيه معنى الأخوّة العربية والإنسانية، حيث قطع المسعف الحبل السري، واعتنى بالطفلة، وحرص على تحفيز تنفسها، ثم تأكد من استقرار العلامات الحيوية للأم.
ربما لا تدرك تلك الصغيرة اليوم ماذا حدث، أو كيف جادت بها الحياة لتولد في أرض غير وطنها، لكن ما سيبقى محفورًا في ذاكرتها يومًا ما هو أن أول صرخة لها لم تكن في أرض غريبة، بل في حضن أمة احتضنت أمها وشاركتها ألمها، واحتفلت بقدومها.