"يبعث الله للأمة على رأس مائة عام من يجدد لها أمور دينها".. حديث روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه ينتظر الناس من يتعلقون به من الدعاة والعلماء، إذ أن أنه ليس سهلا أن يقتحم عالم أو داعية قلوب الناس بمختلف أطيافهم، وهى المعادلة التى حققها إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوي، الذي نجح في أن يصل إلى فئات الناس المختلفية، غني وفقير، كبير وصغير، رئيس ومرؤوس، مسلم وغير مسلم، وهذه حالة لا تتكرر كثيرا في أزمنة عدة، إلا أن هذا الاتفاق الكبير على شخص الشعراوى لا يخلو من بعض المخالفين له فى حياته وبعد ماته، فالإجماع على شخص درب من الخيال، فالناس اختلفوا على تصديق الرسول بل بعض الناس كذبوه وآخرون لم يؤمنوا به.
الشيخ محمد متولى الشعراوى كان حالة مهما حاولت أن تدرسها أو تصنفها لن تفلح، فربما لم يكن الأكثر علما من علماء عاصروه لكنه كان الأكثر ذكاء وتأثيرا، فهو لم يحصل على إلا على شهادته الجامعية مثلا من كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، ولم يصل إلى مرتبة شيخ الأزهر، ولم يكن له مؤلفات كثيرة موضوعة في المكتبات، لكنه أثبت أن التأثير ليس بالمناصب ولا بالدرجات العلميات ولا بتأليف الكتب، وإنما التأثير هو فتح من الله إلى جانب علاقة خاصة بين العبد وربه ليفتح له قلوب البلاد والعباد.
والمتأمل لرحلة الشيخ الشعراوى الذى ولد في 15 أبريل عام 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بمصر، يرى أن حياته كانت عبارة عن تحولات فكرية، إذ أنه حفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره. في عام 1922.
كانت نقطة تحول في حياة الشيخ الشعراوي، عندما أراد والده إلحاقه بالأزهر الشريف بالقاهرة، وكان الشيخ الشعراوي يود أن يبقى مع إخوته لزراعة الأرض، ولكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى القاهرة، ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن، فما كان منه إلا أن اشترط على والده أن يشتري له كميات من أمهات الكتب في التراث واللغة وعلوم القرآن والتفاسير وكتب الحديث النبوي الشريف، كنوع من التعجيز حتى يرضى والده بعودته إلى القرية، لكن والده فطن إلى تلك الحيلة، واشترى له كل ما طلب قائلاً له: أنا أعلم يا بني أن جميع هذه الكتب ليست مقررة عليك، ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها كي تنهل من العلم. وهذا ما قاله الشيخ الشعراوي في لقائه مع الصحفي طارق حبيب.
أظهر نبوغاً منذ الصغر في حفظه للشعر والمأثور من القول والحكم، ثم حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1923م، ودخل المعهد الثانوي الأزهري، وزاد اهتمامه بالشعر والأدب، وحظي بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيسًا لاتحاد الطلبة، ورئيسًا لجمعية الأدباء بالزقازيق.
حياته الجامعية
التحق الشعراوي بكلية اللغة العربية سنة 1937، وانشغل بالحركة الوطنية والحركة الأزهرية، فحركة مقاومة المحتلين الإنجليز سنة 1919، اندلعت من الأزهر الشريف، ومن الأزهر خرجت المنشورات التي تعبر عن سخط المصريين ضد الإنجليز المحتلين. ولم يكن معهد الزقازيق بعيدًا عن قلعة الأزهر في القاهرة، فكان يتوجه وزملاؤه إلى ساحات الأزهر وأروقته، ويلقي بالخطب مما عرضه للاعتقال أكثر من مرة وكان وقتها رئيسًا لاتحاد الطلبة سنة 1934.
أسرة الشعراوي
تزوج محمد متولي الشعراوي وهو في الثانوية بناءً على رغبة والده الذي اختار له زوجته، ووافق الشيخ على اختياره، لينجب ثلاثة أولاد وبنتين، الأولاد: سامي وعبد الرحيم وأحمد، والبنتين فاطمة وصالحة، وكان الشيخ يرى أن أول عوامل نجاح الزواج هو الاختيار والقبول من الطرفين والمحبة بينهما.
حياته العلمية والعملية
تخرج عام 1940، وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943، وبعد تخرجه عين الشعراوي في المعهد الديني بطنطا، ثم انتقل بعد ذلك إلى المعهد الديني بالزقازيق ثم المعهد الديني بالإسكندرية وبعد فترة خبرة طويلة انتقل الشيخ الشعراوي إلى العمل في السعودية عام 1950 ليعمل أستاذاً للشريعة في جامعة أم القرى.
اضطر الشيخ الشعراوي أن يدرِّس مادة العقائد رغم تخصصه أصلاً في اللغة وهذا في حد ذاته يشكل صعوبة كبيرة إلا أن الشيخ الشعراوي استطاع أن يثبت تفوقه في تدريس هذه المادة لدرجة كبيرة لاقت استحسان وتقدير الجميع.
وفي عام 1963 حدث الخلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين الملك سعود، وعلى إثر ذلك منع الرئيس جمال عبد الناصر الشيخ الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية، وعين في القاهرة مديراً لمكتب شيخ الأزهر الشريف الشيخ حسن مأمون.
سافر بعد ذلك الشيخ الشعراوي إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر هناك ومكث بالجزائر حوالي سبع سنوات قضاها في التدريس وأثناء وجوده في الجزائر حدثت نكسة يونيو 1967، وقد سجد الشعراوى شكراً لأقسى الهزائم العسكرية التي منيت بها مصر - و برر ذلك في برنامج من الألف إلى الياء بقوله إن مصر لم تنتصر وهي في أحضان الشيوعية فلم يفتن المصريون في دينهم، وحين عاد الشيخ الشعراوي إلى القاهرة عين مديراً لأوقاف محافظة الغربية فترة، ثم وكيلاً للدعوة والفكر، ثم وكيلاً للأزهر ثم عاد ثانية إلى السعودية ، حيث قام بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز.
كانت حياة «الشعراوي» مليئة بالتحولات الفكرية حتى وصل إلى أن أصبح له فكر خاص بل وله مريدون، فهو أول من خط بيده بيان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين وما لبث حتى أعلن انشقاقه عنها نظرا لانتمائه القديم لحزب الوفد الذي كان زعيمه «سعد زغلول» وبعده «مصطفى النحاس» اللذين كان يعشقهما الشعراوي بل وأنشد فيهما شعرا.
لم يكن من محبي «السياسة» ولا من المتطلعين للمناصب، ولكن القدر ساقه إلى الاشتباك في معاركها، حتى نضاله المشهور في معهده كان ضد الإنجليز وهو ما كان يحتمه عليه واجبه الوطني.
كان يرى في مؤسسة الأزهر «قداسة» لا يجب أن يصل أحد إليها، فكان من أول المعترضين على قانون الأزهر وهو ما جعل «عبد الناصر» يترأس بعثة التعريب في الجزائر، حتى جاء السادات واستدعاه للتدخل في رجوع العلاقات السعودية المصرية نظرا لعلاقاته الجيدة مع المملكة الذي قضى فيها عمرا طويلا مدرسا في كلياتها.
بعدها أراد السادات أن يصبغ على حكمه الصبغة الدينية فاستدعاه وزيرا للأوقاف ولكنه لم يلبث حتى خرج من الوزارة كما أتى، بل إنه اصطدم بالسادات لما رغبت «جيهان السادات» في تأييده لقانون الأحوال الشخصية، وهو كان يرى أنه مخالف للشريعة الإسلامية، وبعدها اتفاقية «كامب ديفيد»، وصمت الشعراوي قليلا ثم لم يمكث طويلا حتى تحدث في دروسه عن صفات اليهود السلبية، ليطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي رسميا بوقف حلقاته.
وفاته
قال عبد الرحيم الشعراوي، ابن الشخ الأكبر، إن والده كان يكره المستشفيات والتواجد بها، وإنه قبل وفاته بحوالي 18 يومًا انفصل تماما عن العالم الخارجي، ورفض الطعام والشراب والدواء، وحتى الرد على الهاتف المحمول، واكتفى فقط بتواجد أبنائه وأحفاده من حوله.
وأضاف أنه قبل وفاة والده بيومين، طلب منه والده أن يجري تجهيزات الجنازة الخاصة به، وعندما رأى الشيخ الشعراوي الدموع في عين نجله قال له: "نعم؟.. من أولها؟.. قد المسئولية ولا مش قد المسئولية.. ربنا هيعينك إن شاء الله.. أنا عارف إن إنت اللي هتتحمل ومتتفاجئش وتبقى رابط الجأش".
وتابع، أنه مع بدء الساعات الأولى لليوم الذي حدد الشعراوي أنه اليوم الذي سيقابل فيه ربه بدأ يقلق على والده، طلب في هذا اليوم تقليم أظافره وأن يستحم ويلبس ملابس جديدة تمامًا، وطلب من أولاده أن يتركوه بمفرده، قائلًا له «عاوز أقعد مع ربنا شوية»، وخرجت روحه إلى بارئها في مثل هذا اليوم من عام 1998، عن عمر يناهز ٨٧ عاما.